تخطى إلى المحتوى الرئيسي
الصفحة الرئيسية عن منصة الحسن تواصل معنا

مدونة الموقع

بواسطة الأحد، 15 سبتمبر 2024، 11:47 AM - منصة الحسن
أي شخص بالعالم

يطل علينا شهر ربيع الأول في كل عام ليحمل معه الأمل والرجاء وأجمل المعاني والدلالات التي ارتبطت بمولد الرسول الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وما تضمنته رسالته الخاتمة من قيم ومبادئ عظيمة كان لها بالغ الأثر في ميلاد رسالة التوحيد التي نهضت بالشعوب والمجتمعات، وكانت لها الإسهامات الكبيرة في الحضارة الإنسانية.
لقد فاضت محبة الله على رسوله الكريم من عين الجود والعناية الإلهية، فقد أخبرنا الباري عن هذه الحقيقة بقوله: «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا»، فمحبة الله لا تنفصل عن قوة الصبر ومكابدة آلام الحياة التي تعترض طريق الإنسان ومسيرته، فإذا أحب الله عبداً ابتلاه، والمؤمن يزداد صبراً وثباتاً في وجه الشدائد عندما يستحضر عظمة هذه العناية والمحبة الإلهية. وإن محبة الله لرسوله الكريم هي المثل الأعلى لمحبة الله للإنسان، وعلى قدر هذه المحبة أحب الله الهداية والرحمة للبشرية كلها، فكانت رسالة المصطفى رحمة للعالمين وهداية للناس أجمعين، ومن معين هذه المحبة جاءت محبة المؤمنين للرسول لتكون تعبيراً عملياً عن إرادة الإنسان وقدرته على تجاوز فردانيته وخروجه من ضيق الـ«أنا» وغرورها إلى نور الهداية ورحابة الـ«نحن».

يقول الباري عز وجل على لسان نبيه: «قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ». وكأن من لا يتبع الرسول ويحبه غير جدير بمحبة الله، فالحب الإلهي مشروط بمحبة رسوله. والاتباع بمعناه العميق يتعدى اللباس والشكل إلى السلوك والأخلاق والإقبال على التفكير والاجتهاد.

إن نجاح الرسالة الإنسانية والحضارية التي جاء بها المصطفى يتطلب تفعيل إرادة شعوب الأمة، وما نشهده اليوم من تطور في المعارف والعلوم، وثورة الاتصالات والتكنولوجيا الرقمية، والذكاء الاصطناعي يدعونا إلى تطوير قدراتنا المعرفية في شؤون الدين والدنيا، والانتقال إلى مرحلة جديدة من تجديد فهمنا لحقائق التنزيل، وصياغة خطاب حضاري شامل يعبر عن عالمية الرسالة وقيمها الجوهرية في ذات الوقت الذي يعبر فيه عن روح العصر ومعارفه الجديدة. وإن بذل الجهد والعمل على تطوير قدراتنا في شؤون الدين والدنيا هو شحذ لمسؤوليتنا الروحانية والإنسانية في عمارة الأرض (المحيط) وتنميتها.

وفي هذا السياق، أشير إلى وثيقة «الميزان: عهد من أجل الأرض» التي أطلقت خلال الدورة السَّادسة لجمعية الأمم المتحدة للبيئة. وهي مستوحاة من المبادئ الإسلاميَّة التي تؤسس لنظرة شاملة حول البيئة ومشكلاتها والمسؤولية البيئية للإنسان، وهذا ما يدعونا اليوم إلى الانخراط في كل أشكال التعاون الإنساني الذي ينتصر للمصالح الإنسانية الجامعة كالحفاظ على البيئة، ومحاربة الفقر متعدد الأبعاد، والتصدي للحرمان الإنساني بمختلف صوره وأنواعه. وهنا أذكِّر بالمبادرات التي قمنا بها في سبيل الحفاظ على البيئة المحيطة مثل مبادرة السلام الأزرق التي تهتم بإدارة المياه في الإقليم، ومبادرة الـ WEFE التي تُعنى بالمياه والطاقة والغذاء والبيئة، وقبلها مبادرة المسجد الأخضر المستوحاة من الحديث الشريف: «لا تسرف وإن كنت على نهرٍ جارٍ»؛ والتي تهدف إلى تدوير مياه الوضوء وإعادة استخدامها.

إن الخلل في التعامل مع البيئة المحيطة ومواردها لا ينفصل عن التعسف في التعامل مع مواردنا الروحية والإيمانية، فتقدم الحضارة البشرية بمعناه الشامل يتطلب بناء أربع علاقات أساسية: علاقة الإنسان مع نفسه، ومع أخيه الإنسان، ومع الطبيعة، ومع الخالق عزَّ وجل. ولا تنجح هذه العلاقات إلا على أساس بناء واحد يجمع بين «الأخلاق والإيمان والعلم والعمل»، وأشير هنا إلى مطالبة الإمام الأكبر، شيخ الأزهر، برفع الوعي بالقضايا المجتمعية المعاصرة، لردم الفجوة بين التشريعات الإسلامية المتعلقة بترشيد استهلاك المياه وسلوك بعض المسلمين على أرض الواقع؛ وتصميم مقررات دراسية تتناول القضايا المجتمعية المعاصرة؛ مع التركيز على أهمية دور وزارة الأوقاف والمساجد في التوعية.

ولعل أبرز ما تتميز به الحضارة الإسلامية هو قدرتها الفائقة على الربط بين الجوانب المادية والروحية للإعمار والتنمية، حيث أولت عناية خاصة بالجوانب العقدية التي تحدد للإنسان غايته من الوجود ووظيفته في الأرض وبوصلته إلى الدار الآخرة، وهذا ما يجعل مهمة الإعمار ممتزجة مع وظيفة الاستخلاف ومع مقاصد العبادة والتوحيد، لتشكل جميعها نسقاً واحداً يضبط سلوك الإنسان نحو الرشد والتوازن والوسطية ويجعله سلوكاً إصلاحياً استخلافياً، بعيداً عن كل مظاهر السفه والاختلال والإفساد في الأرض.

يمثل تأسيس الدولة الذي قام به الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة، الأنموذج العملي لتلك الأسس والمبادئ، فقد بدأ الرسول ببناء المسجد والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، في الوقت ذاته الذي أقام فيه السوق ووضع دستوراً «صحيفة المدينة»، ينظم الحقوق والواجبات بين سكان المدينة من المسلمين والقبائل اليهودية، كما أرسى مبدأ الشورى بين أفراد المجتمع لتكون أساسا لتبادل الخبرات الإنسانية، والمشاركة الفاعلة في بناء الدولة وتطويرها، وتعبيراً صادقاً عن حرية الأفراد في التعبير عن آرائهم وفق قاعدة المسؤولية.

تأتي ذكرى المولد النبوي هذا العام والعدوان على أرواح الأبرياء في فلسطين ما زال متواصلاً منذ ما يزيد على قرنٍ من الزمان، أي منذ اتفاقيات سايكس-بيكو ووعد بلفور، وهو عدوان يزداد كل يوم وحشية وقبحاً، حيث يتعرض أهلنا في غزة وفلسطين، منذ ما يقارب العام، إلى القتل الجماعي والحرب الظالمة، وهذا ما ينبهنا الى أن جوهر المشكلة يكمن في الاحتلال، وغياب القيم الإنسانية الفاضلة التي توجب على العالم كله الانتصار للمظلوم والوقوف معه ومساندته، ومنع الظالم من ظلمه، فضلاً عما نعانيه من تجزئة المجزأ، ومن مشاكل داخلية تعيقنا عن النهوض والتنمية.

يدعونا شهر ربيع الأول إلى استثمار ذكرى المولد النبوي الشريف للدعوة إلى ربيع القيم والأخلاق التي حملها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم للناس، وجعلها عنواناً لرسالته عندما قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وأن نجعل هذه المناسبة الغالية فرصة لإطلاق البرامج العملية والمنصات المجتمعية التي تعرّف بأخلاق الإسلام وهديه ورحمته بالعالمين، فكلما كنا أقرب إلى القيم الأخلاقية عملاً ودعوة، كنا أقرب إلى رسالة الإسلام وحقيقته: «يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين».

نسأل الله العلي القدير أن يفرِّج الكرب عن أهلنا في غزة وفلسطين وفي كل ديار العرب والمسلمين، وكل عام وأنتم بخير.

 
ابراهيم الناجي
بواسطة الأحد، 14 يوليو 2024، 10:26 AM - ابراهيم الناجي
أي شخص بالعالم

فحص المنصة

 
أي شخص بالعالم


لا نجد وصفًا أبلغ ولا أجمل في بيان مكانة الليلة التي أنزل الله فيها كتابه وأشرقت منها شمس رسالته الخاتمة من قوله تعالى: “سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ”، فهي لحظة ميلاد جديد تصحح مسار التاريخ الإنساني الذي أنهكته الحروب ومزقته النزاعات وحان وقت انتقاله إلى صراط الرحمة والعدل والسلام الذي يمتد من السماء إلى الأرض حتى تشرق الأرض بنور ربها.

إنها ليلة التكريم والتشريف والرفعة التي أنزل الله فيها كتابه العزيز على قلب حبيبه المصطفى عليه الصلاة والسلام، والذي تجسّدت في أخلاقه حقائق التنزيل وارتسمت في حركته معالم الإنسان الكامل الذي تنعكس في مرآته إشراقات الحكمة الإلهية بكل تألقها وبهائها. 

 من لطائف فيوضات هذه الليلة ما يستشعره المؤمنون من دفقات روحية قوية تستنهض فيهم العزيمة والرجاء وتضيء لهم الطريق ليمضوا في بناء حضارة الرحمة بين شعوب الأرض فلا يصدهم دون غايتهم ظلم ولا جهل ولا عدوان. تختصر العلاقة بين رمضان والعيد معاني الصبر والصدق والتقوى التي يعيشها الصائم في رمضان وما يتبعه من فرح منتظر في العيد مسيرة الحياة البشرية التي يرتجي فيها الصابرون والكادحون السعادة والثواب في كنف الله تعالى مصداقًا لقوله جلَّ وعلا: “يَا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ.” فخروج الإنسان من عبودية أناه وتحرير إرادته هو الطريق الأمثل لتكريم نفسه ورفع مكانته في الدنيا وعند لقاء ربه.

  نستذكر في مطلع عيد الفطر ما يستحقه كل مجتهد يسعى إلى إصلاح نفسه وطاعة خالقه من مكافأة وجزاء حسن، وكذلك ما يستحقه كل مبدع ومصلح من تقدير وتوقير في مجتمعاتنا البشرية، ولا ننسى هنا ما يعانيه الإنسان الذي هُدِرت طاقاته، والعقول المهاجرة التي لم تجد من يوفيها حقها من الرعاية والاهتمام في كثير من المجتمعات والبلدان. تحيي تكبيرات يوم العيد في قلوب المؤمنين الفرح والرجاء بالمستقبل، وتبث في نفوسهم العزم على مواصلة العمل لبناء معاني العدالة والرحمة والإحسان في بيوتهم ومجتمعاتهم وفي أرجاء المعمورة كلها.

 فلا ينفصل سعي المؤمن لنيل الفرح والسرور عن دوره في تحقيق السعادة والبهجة لكل من يجاوره ويساكنه من الخلق، وهنا يتجلى مفهوم السعادة في الإسلام الذي يستمد معناه من محبة الله والقرب منه، حيث الرضا والسكينة والطمأنينة. من أهم تجليات معاني الرحمة التي جاءت بها تعاليم القرآن فريضة الزكاة التي تبدأ من معناها الروحي المتعلق بطهارة النفس وتحرر الإرادة من ثقل العبودية للرغبات، وينتهي بجانبه الاقتصادي والاجتماعي الذي يجسّد الروح الإنسانية التضامنية التي يحويها الإسلام. وهنا ندرك ميزة مفهوم الزكاة في الإسلام كنظام اجتماعي إنساني عادل يبتعد عن سطوة الفوارق الطبقية وأحقادها.

وهنا أشير إلى دعوتي التي شرعت بها منذ سبعينيات القرن الماضي والمتمثلة بالمؤسسة العالمية للزكاة والتي تمثل حلًا عمليًا لمشكلاتنا الاقتصادية وأشكال الحرمان المتعدد بأنواعه المختلفة، وأذكر كذلك تقرير البنك الإسلامي للتنمية والذي يذهب إلى أن قيمة الزكاة المستحقة على أموال المسلمين في وقتنا الراهن تقدر بـ 350 مليار دولار، وأن ما يتم جمعه لا يزيد على 10% من هذا المبلغ، ولنا أن نتخيل ما الذي يمكن لهذا المبلغ أن يحدثه من تغيير شامل على مستوى احتياجات الفقراء واللاجئين والمحرومين في العالم كله. تجمع تعاليم الإسلام بين إصلاح الإنسان والمجتمع وإصلاح الأرض وإعمارها، وأن مخالفة تلك التعاليم ستؤدي لا محالة إلى حدوث الإفساد في الأرض والمجتمع: “فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأرض وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ”؛ وهنا أشيد بكلمة الإمام الأكبر، شيخ الأزهر، أثناء الاحتفال بليلة القدر والتي دعا فيها إلى تحقيق “وحدة علمائية تجمع رموز الإسلام من سُنَّة وشيعة وإباضية وغيرهم من أهل القبلة على مائدة واحدة لوضع حدود فاصلة بين ما يجب الاتفاق عليه، وما يصح الاختلاف فيه، ذلك الاختلاف الذي أثرى العلوم الإسلامية، وحولها إلى معين لا ينضب من اللطف واليسر والرحمة.” لا ننسى في هذه الأيام ما يحدث في غزة من ظلم وعدوان حريّ به أن يشعل في عقولنا ثورة الوعي ويستنهض في نفوسنا إرادة العمل والبناء، وخلافًا للنظرة التي تبث الشعور باليأس والعجز في نفوس الضعفاء، فإن الإسلام يعلمنا مواصلة الثبات والرجاء والعمل مهما كانت المحن والتحديات، وكما يقول رسولنا الكريم: “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل”.

 إن قوة الصبر والرجاء التي يبثها الإيمان في قلوب المؤمنين تعينهم على مواجهة مصاعب الحياة وتحدياتها، فلا يأس ولا قنوط في الحياة كما يعلمنا القرآن: “وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ”. فالمؤمن كل أحواله خير كما يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: “عَجِبْتُ لأمرِ المؤمنِ، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ خيرٌ، إن أصابَهُ ما يحبُّ حمدَ اللَّهَ وَكانَ لَهُ خيرٌ، وإن أصابَهُ ما يَكْرَهُ فصبرَ كانَ لَهُ خيرٌ، وليسَ كلُّ أحدٍ أمرُهُ كلُّهُ خيرٌ إلَّا المؤمنُ”. نسأل الله العلي القدير في هذه الأيام المباركة، أن يفرِّج كرب أهلنا في غزة وفي عموم فلسطين، وكرب المستضعفين في كافة أنحاء الأرض، وأن يعيد هذه الأيام المباركة علينا وعلى شعوبنا العربية والإسلامية بخير وكرامة ونماء وكل عام وأنتم بخير.

 
أي شخص بالعالم

وتاليا نص رسالة سموه: "بالتأمل في العام الماضي، لا يمكن للمرء تجاهل المعاناة الإنسانية الكارثية التي لا تزال أبعادها تتكشف في قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة.
وتذكِّرنا هذه الأحداث المؤلمة بالكلمات التي قالها المغفور له جلالة الملك الحسين بن طلال، طيب الله ثراه في الجلسة الخاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة في 26 حزيران عام 1967: "سوف لا أحدثكم فقط عن السلام لأن الشرط الأساسي الكبير للسلام هو العدل، عندما نحقق العدل في الشرق الأوسط نكون قد حققنا السلام فيه، لقد كثر الكلام حول السلام في هذه القاعة ولكن الكلام عن العدل كان قليلاً جداً، لقد ادَّعت إسرائيل بأن ما يطلبه شعبها هو السلام والأمن، ولكن اذكروا جيداً بأن هذه كانت صيحة المعتدي المنتصر، وهي صيحة للسلام الذي يقوم على تسليم الضحية، والأمن القائم على أشلاء الذي سقط".
"إن حرب اليوم ليست حرباً جديدة بل إنها جزء من حرب قديمة ستستمر لسنين طويلة إذا لم يُصحح الخطأ المعنوي والمادي الذي لحق بالعرب".
وعَقِبَ حرب 1967 المشؤومة، وهي مثال على الوعود الكاذبة بأرض الميعاد، شرع سمو الأمير الحسن في البحث والكتابة حول على ما أسماه "المستعمرات" في الضفة الغربية، فكان نتاج هذه الجهود المخلصة نشر العديد من الأعمال القيِّمة منها "القدس دراسة قانونية عام 1979"، و "حق الفلسطينيين في تقرير المصير: دراسة للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1980".
وعلى مر السنين، عبَّر سموه باستمرار، عن إيمانه الراسخ في حق تقرير المصير، والاعتراف به كحق أساسي من حقوق الإنسان.
وخلال العام الماضي، كرّس سمو الأمير الحسن بن طلال نفسه، كما هو الحال دائمًا، للعمل مع المجتمعات المحلية، التي تركِّز على جعل القانون يعمل من أجل الجميع.
كما كان سموه من أشد المؤيدين للمبادرات الإقليمية التي تهدف إلى تعزيز الاستقرار الإقليمي ومن بينها الدعوة إلى تشكيل مجلس اقتصادي واجتماعي في المنطقة، تنشئه المنطقة بنفسها، من أجل الاعتراف بالكرامة الإنسانية للمشرق وشبه الجزيرة العربية.
وما يزال سموه ثابتًا في التزامه بتعزيز السلام في المشرق والعالم، اذ من الأمور الأساسية في هذا المسعى تفانيه في الدعوة إلى حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني.

 
بواسطة الاثنين، 18 مارس 2024، 11:45 AM - منصة الحسن
أي شخص بالعالم

لا نجد حدثًا يُجسّد كثافة المعاني الروحانية والعرفانية للإسلام كما في حادثة الإسراء والمعراج، فالإسراء هو آية من آيات الله الكبرى التي لا تتوقف معانيها ودلالاتها على مكانة النبي العظيمة ومبلغ تكريمه وإنما تمتد لتشمل كل إنسان يستلهم الهداية والرشاد. لقد جمع الرسول الأعظم في رحلته من مكة إلى القدس بين خبرته الروحية الفردية والخبرة الجماعية للرسل السابقين، فالأنبياء يتعانقون جميعا كلَبنات بناء واحد لا يفصل بينهم اختلاف المكان أو تباعد الزمان.
في ليلة الإسراء والمعراج كان الارتحال أفقيًا وعموديًا. جاء الارتحال العمودي نحو السماء بمثابة تعبير روحاني إيماني لا نملك أمام صدقيته سوى الإيمان والتسليم به. وهذا الارتحال قد جاء كثمرة للحركة النبوية الأفقية بين مكانين على الأرض، وهنا تظهر الرمزية الكبيرة للارتحال من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى فهو ينبّهنا إلى أهمية الجغرافيا وتواصل الشعوب باعتبارها دروبًا للأفكار ومسالك للمعرفة والعرفان.
وفي السياق ذاته فإن علاقة الإنسان بالخالق ورحلته الروحية الفردية لا تنفصل بحال من الأحوال عن علاقته بمحيطه الكوني ورحلته الجماعية. وبناءً على هذه النظرة الشمولية العميقة للإنسان ندرك بأن النظرة المقاصدية الكلية للشريعة في الإسلام لا تفصل بين الدين والدنيا أو بين الجهاد الاجتماعي الذي يسري بين الناس على الأرض ويسعى إلى تحقيق العدل والنفع العام، وبين الجهاد الروحي الذي يرتقي بالمؤمن نحو معارج السماء، فالمعاملات والعبادات كلاهما ينتظم في حركة بنائية واحدة تسعى إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل.
وبصفاء ليلة الإسراء والمعراج تعيد تلك الرحلة تذكيرنا بجذورنا وثقافتنا العربية التي ألِفَت حريّة الحركة والارتحال في الشتاء والصيف من تهامة جنوبًا إلى بلاد الشام شمالًا. وفي الوقت الذي ما تزال فيه منطقتنا عرضة للأزمات والعدوان، ماذا سيبقى من حمى أو حُرُمات ما لم تتآلف القلوب وتتسق القناعات من أجل نقاء الهوية وصفائها ودفاعًا عن القداسة الموصولة للأماكن التي باركها الله في آياته المحكمات؟ وبعيدًا عن الاعتبارات المادية والسياسية المألوفة التي خلَّفها الاستعمار القديم، والتي لا تؤدي سوى إلى مزيد من التشظي والتقسيم، فهل يمكن لنا أن نستثمر إرهاصات “ثورة الوعي” ونهضة العقل والضمير التي أصبحت أكثر وضوحًا وجلاءً من أي وقت مضى؟
يجعلنا الإسراء من مكة إلى القدس أكثر إدراكًا بأن قضية فلسطين هي قضية بلاد الشام والجزيرة العربية والأمة العربية والإسلامية، ومن هنا كان الإسراء والمعراج نقطة تحول في تاريخ البشرية حيث اتسعت دوائر القداسة في المكان والزمان وتأسست القواعد الإيمانية المشتركة لميلاد عالمية إنسانية جديدة تشمل البشرية كلها.
تنبّهنا حادثة الإسراء والمعراج إلى الاقتران العميق بين مقام الألوهية ومقام العبودية، أو ما يسميه محمد إقبال “نفي الذات”، وما ينطوي عليه من تواضع وخضوع مطلق للخالق، والذي يقابله “إثبات الذات” بين الإنسان وأخيه الإنسان.
لا شك أن عشقَ القلب والانجذاب الروحي للخالق يتجاوز حدود المعرفة الذهنية المجردة، ولكن رحلة الإسراء والمعراج لا تمثل نقيضًا للعقل البشري، فالإسلام جاء بما تحار به العقول ويستنهضها لا بما يناقضها ويقوض بنيانها، وهنا ندرك ضرورة الجمع بين الإشراق الروحي والتنوير العقلي.
ورغم أننا لا نؤيد تسييس الدين فإن المشهد الحالي لما يحدث في أرض الإسراء والمعراج يسيّس كل شيء، ويدفع نحو مزيد من الصراعات عوضًا عن إنهاء الظلم والعدوان، وإيجاد نظام إنساني عالمي جديد محوره وجوهره كرامة الإنسان وتحقيق العدالة بين الشعوب. يعلمنا التاريخ أن روح الحرية والانعتاق للأمم والشعوب ستبقى حاضرة في القيم الروحية الكامنة التي تختزنها شرائع الأنبياء والمرسلين وتستعصي على جنون الهيمنة والاستعلاء، فرغم نجاح الاستعمار القديم بتقسيم المنطقة إلى أوطان منفصلة وابتلائنا بهويات فرعية اتخذت من اختلاف الجنسية والوطن مسوّغًا لها فسيبقى الرجاء حاضرًا رغم المحن والأخطار، وأذكر هنا مقولة الملك الشهيد: “أتينا لبذل المهج دونكم، وكفانا دليلًا صدق بلائنا في الله والجنسية والوطن، وتعريض النفس للأخطار والمحن”.
ندرك تمامًا أن تهديد عروبة المسلم أو المسيحي أو غيرهم من أتباع الأديان في المشرق هو جزء من تقويض الهوية العربية الجامعة التي عمل الاستعمار على تفتيتها في سبيل تعطيل نهضتنا وتسخير تبعيتنا لمركزيته المهيمنة.
إن حق المسلمين الروحي في القدس لم يبدأ بحادثة الإسراء والمعراج، أو بالدخول السلمي للمدينة في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإنما هو امتداد للحق التاريخي للشعب الفلسطيني في وطنه، فالوجود الحضاري للشعب الفلسطيني بدأ قبل رحلة إبراهيم عليه السلام من مدينة أور في العراق إلى فلسطين بآلاف السنين. وهنا لا بد من نشر الوعي بين الأجيال بأن الشعوب العربية وغيرها من الشعوب التي اعتنق معظمها الإسلام هي ذاتها كانت متجذرة في أوطانها قبل انتشار الإسلام.
علينا أن ندرك أن الصلة التي أنشأتها رحلة الإسراء والمعراج بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى تؤكد أن أي تهديد أو مساس بالمسجد الأقصى وبالشعب الفلسطيني الصامد على أرضه المباركة إنما هو اعتداء على كرامة الإنسان ومساس بالمقدسات، فهل يمكن لنا بعد ذلك أن ننسى أرض الإسراء والمعراج؟

[ تم التعديل: الثلاثاء، 19 مارس 2024، 10:47 AM ]
 
بواسطة الأحد، 17 مارس 2024، 3:07 PM - منصة الحسن
أي شخص بالعالم

الأربعاء 3 من رمضان 1445 هــ 13 مارس 2024 

يهل علينا شهر رمضان المبارك، شهر الرحمات والبركات والطاعات، وفى ظل نسائمه الروحانية، يجب أن تحفزنا الظروف القاسية التي تمر بها أمتنا العربية والإسلامية والعالم أجمع على التفكُّر في أولوياتنا كأمة تحمل رسالة سامية، تبلغها للناس، وتنشر قيم الخير والفضيلة والمحبة بين أمم الأرض وشعوبها جميعًا، ليكون الشهر الفضيل فترة تدبر ومراجعة نهدف من خلالها إلى تنظيم بيتنا الداخلي وتصويب حالات القصور العديدة في عطائنا.
إن أحكام الإسلام وأوامره تتضمن طاقات هائلة، وتفتح أمام الإنسان المجال لاستكشاف الإمكانات الكامنة فى وجوده الفردي وفى نطاقه الاجتماعي والكوني، ومن هذه الأحكام عبادة الصيام التى تمنح الإنسان فرصة لإعادة اكتشاف إرادته الفردية وتوجيهها نحو الغايات الروحية والاجتماعية التى تحقق الخير العام فى كل مجالاته وتجلياته. والبحث فى العمق الروحى للصيام هو مدخل لاكتشاف حقيقة الإسلام التى غفل عنها كثير من الناس فى عصرنا الراهن الذي هيمنت فيه العولمة المادية الغربية ثقافيًا ورقميًا على عقول كثير من أبناء مجتمعاتنا فى الجنوب الكوني. والغاية المعلنة من الصيام هى التقوى، والتقوى جماع كل خير على المستويات كلها: الفردية والمجتمعية والكونية.
وإذا كان العمل الأصيل فى عبادة الصيام أن يمتنع الإنسان عما اعتاده من أنماط المعيشة اليومية؛ فإن ذلك العمل يعزز قدرتنا على التحرر من العبودية للحاجات، والتحرر من أسر المادة، ولنشعر بما يعانيه أشقاؤنا فى غزة والسودان وغيرهما من المجاعة وشظف العيش ونقص الغذاء والدواء بالإضافة إلى تلوث مياه الشرب، وغيرها من ألوان التجويع والقهر والحرمان مع تعسف واضح وإجرام ظاهر. وأمام هذا كله فإن التضامن العاطفى مع أهميته لم يعد كافياً خاصة فى ظل هذه السلوكيات العدوانية التى تجاوزت التوجيهات الدينية والأعراف الدولية والأحكام العقلية؛ لذا يجب أن ننتقل إلى العمل الجاد لرفع ما يعانيه أخوتنا من ضيم الطغاة والغزاة والغلاة.
لقد آن الأوان لنتحدث عن آلية تضامن كونى إنسانى فى وجه الطغيان والنزعة إلى الغزو والاحتلال، وفى وجه الغلاة أيًا كانت مشاربهم، وهدم جدران وخطوط الفصل بين الشرق والغرب وبين الأعراق البشرية والتى صارت أكثر صلابة من خط ماجينو.
إن ما يتعرض له أبناء فلسطين فى غزة هاشم، حيث يرقد شيخ الهواشم: هاشم بن عبد مناف، وفى القدس حيث يرقد الشريف حسين بن على، وفى بقية الأراضى المحتلة، من قتل وتجويع وتخريب، كل هذا الكدر والحرمان الذى نراه على الشاشات ونقرأ ونسمع عنه يجب أن يخرجنا من حالة الشفقة والتعاطف، إلى واقع عملى نمد فيه يد العون للمنكوبين والنازحين والمهمشين، ونمنحهم إلى جانب العون الغذائى، الرعاية الطبية والنفسية اللازمة لتخفف عنهم هول ما عاشوه؛ لأن التئام جروحهم هو بداية العلاج ورأب صدع خط الأزمات، ويستوى فى هذا العمل كل من تشابهت ظروفهم، وكل من تأثروا بالأزمات السياسية التى تناقض معانى الإنسانية.
فهل آن لنا أن ندرك اليوم أن ما ينفق على تمويل الترسانة العسكرية من مبالغ مالية باهظة لو أنفق جزء بسيط منه فى العطاء والأعمال الخيرية لعالجت التحديات التى تواجه الإنسان على الضفة المقابلة من البحر الأحمر.
إذًا، الصوم هو فقر اختيارى يستشعر فيه الناس معنى العدالة الاجتماعية،فالاختلاف بين الناس فى مستوياتهم الاقتصادية قد يفقدهم الشعور بالمساواة ويجعل كثيرًا من الأغنياء يغفلون عن الفقراء ومعاناتهم، فى حين يحقق الصيام هذه المساواة من خلال إعادة بناء الوحدة الشعورية وتقليل الفوارق الطبقية بين الناس.
ومما ينبّهنا إليه شهر رمضان هذه العلاقة الوثيقة بين العبادة والعمل، فالعمل هو ثمرة الإيمان وهو طاعة يحبها الله ويثيب عليها الإنسان؛ ومن هذا المنطلق يجب أن يكون الشهر الفضيل حافزًا لزيادة الإنتاج ومضاعفة الإنجازات، ويشهد على ذلك التاريخ الذى يخبرنا أن كثيرًا من الانتصارات والإنجازات حدثت فى هذا الشهر الكريم؛ فليس الصيام سلبية ولا نوماً ولا هروباً من العمل والتكاليف، بل هو عبادة روحانية تدفع إلى مزيد من العمل والبذل.
وإذا كان الإسلام ينادى فى أهله دائماً بضرورة التقدم من حال إلى حال أفضل منه، فى كل مجالات الحياة؛ فإننا يمكن أن نقول: إن رسالة الإسلام تقترن بمفهوم النهضة. ومن منظور الإسلام تبدأ النهضة عندما تولد فى الإنسان الإرادة الحرة الباعثة على تغيير واقعه، وهذه الإرادة تتطلب قفزة نوعية تخرجه من حالة شعور الإنسان بقصوره الذاتى إلى حالة أخرى تشعره بكرامته وعقله وقدرته على تجاوز الأنماط الفكرية والثقافية السائدة فى محيطه الاجتماعي. وفى هذا السياق تصبح عملية النهوض مشروعًا حضاريًا شاملًا لا يتوقف على مرحلة يشعر فيها المجتمع بالظلم أوالضعف، وإنما تمتد لتكون بمثابة غاية متجددة تشمل مسيرة التاريخ البشرى كله. والقيمة الاجتماعية الأساسية التى يعيشها الصائم ويختبرها فى كل أحاسيسه وجوارحه هى قيمة التضامن الاجتماعى، والتى أضحت اليوم ضرورة اجتماعية تزداد إلحاحًا فى وقتنا الراهن الذى انكشفت فيه هشاشة قيم الرأسمالية النفعية وانحيازه المتواصل لمشاريع الهيمنة.
إن غاية الحياة أن نعمل من خلال النهضة من أجل مستقبل أفضل للأجيال القادمة، ومن هنا نرفض سياسات الإماتة التى تُمارس على أهلنا فى غزة، الذين لم ولن يقبلوا بها رغم ما يُمارس عليهم من قتل وتجويع وتدمير لبيوتهم ومساجدهم وكنائسهم ومستشفياتهم وتراثهم الحضارى، وكأنى بهم يطبقون الحديث الشريف: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل)، ويعلموننا ألا يأس مع الأمل، رغم أن اليأس قد يدخل نفوسنا بسبب الألم. وعلينا أن نتذكر دومًا أن القضية الفلسطينية، هى قضية العرب والمسلمين جميعًا وهى قضية شعب مظلوم يبحث عن حريته واستقلاله منذ ست وسبعين سنة.
يجب أن يحثنا شهر رمضان على فهم الأصول فى المعاملات، وأن تحقيق الانتصار يبدأ بالتغلب على النفس، والعمل على ترتيب البيت الداخلى، والسير على طريق الغيرية الفعَّالة التى تقدِّم الصالح العام على المصالح الخاصة الضيّقة، وتسعى لخير العالمين، وأذكِّر هنا بالزكاة التى أصبحت تسهم فى جزء كبير من تمويل المنظمة الدولية للاجئين، لا سيما مع انتشار التطبيقات الإلكترونية التى تمكِّن الأفراد من دفع زكاتهم إلكترونيًا الأمر الذى يسهِّل إيصالها إلى المستحقين.
أخيرًا، يذكرنا شهر رمضان بالعلاقة المباشرة مع الخالق، وبعظمة المناشدة والمناجاة(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)، كما يذكرنا بألا ننسى الفضل والإحسان بيننا (وأحسِن كما أحسن الله إليك). أسأل الله الجواد الرحيم أن يحمل شهر الرحمات وقف أنهار الدم الجارية فى فلسطين الحبيبة، بارك الله لكم فى شهر رمضان وتقبَّل طاعاتكم.

[ تم التعديل: الثلاثاء، 19 مارس 2024، 10:13 AM ]
 
بواسطة الأحد، 17 مارس 2024، 3:07 PM - منصة الحسن
أي شخص بالعالم

القبس الدولي ٢٦ أكتوبر ٢٠٢٣
ما قواعد الحرب؟ إنه الوقت المناسب لطرح هذا السؤال عقب الهجمات على المدنيين وعمال الإغاثة والمستشفيات ودور العبادة في قطاع غزة. إن القانون الدولي الإنساني قديم قدم الحرب، إذ تمثل القوانين «الحد الأدنى» من الأسس والقواعد للحفاظ على الإنسانية في أحد أسوأ المواقف التي عرفتها البشرية.
ما زلنا نسمع تِكرار «الانتقال من الشمال إلى الجنوب»، لكن يبقى السؤال المحوري: «أي جنوب؟» علماً أن %70 من سكان غزة هم أصلاً من فلسطينيي عام 1948 التي تُعرف الآن بدولة إسرائيل.
على مدى العقود الخمسة الماضية، أي منذ عام 1972، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض ضد ما لا يقل عن 45 قرارًا لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ينتقد إسرائيل، كان آخرها القرار الصادر في 18 أكتوبر 2023، الذي دعا إلى وقف فوري لإطلاق النار بين إسرائيل و«حماس».
هناك حاجة حيوية إلى حل سياسي واتفاق يضع الأطر والمعايير للقضايا الأساسية، مثل الأرض والقدس واللاجئين والأمن والمستوطنات.
نذكر جميعاً أنه في نوفمبر 2012، صوَّتت بعثة الولايات المتحدة، في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ضد القرار رقم 67/‏19 لترقية فلسطين إلى دولة مراقبة غير عضو؛ وقد لعب هذا القرار، حتى يومنا هذا، دورًا رئيسيًا في عرقلة قرار مجلس الأمن الدولي الصادر في ديسمبر 2014، الذي دعا إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 في غضون ثلاث سنوات.
منذ إنشاء الأمم المتحدة عام 1945، لم تنفِّذ إسرائيل، بمساعدة وتحريض من الولايات المتحدة، أي قرار أممي جرى تبنيه بشأن الفلسطينيين. واليوم، يستطيع المرء أن يقول إن الأمم المتحدة مهمَّشة كمنظمة.
لقد وقفت المحكمة الجنائية الدولية والقانون الدولي عاجزين أمام قضية فلسطين، ومع الطعن في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وفي حياد الأمم المتحدة، تبدو إرادة المجتمع الدولي لتحقيق السلام منقسمة سياسياً إلى محوري المقاومة؛ والتحالف ضد الإرهاب، بحيث لا يمكن للمرء إلا أن يتساءل أين هو التحالف من أجل الكرامة الإنسانية والعيش الكريم، وأين التضامن بين الشعوب؟
تمكن إعادة إحياء عملية السلام، كما يمكن البدء بمفاوضات سلام ليس فقط من أجل القضية الفلسطينية خاصة، وإنما من أجل الإنسانية عامة، ومن أجل الشعوب المحبة للسلام في العالم، التي تطالب بإنهاء الاحتلال.
عندما ننظر إلى الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي /‏ العربي – الإسرائيلي علينا ألا ننظر إليه باعتباره صراعاً متبادلاً بين طرفين، بل إلى أثر هذا الصراع على جميع الأطراف.
يجب أن تطبَّق قواعد الحرب علينا جميعاً. ولكن إذا فشل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أو الأمين العام للأمم المتحدة، المدعومين من المجتمع الدولي، في جعلنا جميعاً نلتزم القواعد الدولية؛ عندها سيؤدي عدم الاستقرار إلى تشجيع طرف ثالث على تقويض الهدف النهائي المتمثل في السلام العادل ويبقينا مقسَّمين لأجيال وأجيال.

[ تم التعديل: الثلاثاء، 19 مارس 2024، 10:13 AM ]
 
بواسطة الأحد، 17 مارس 2024، 3:06 PM - منصة الحسن
أي شخص بالعالم

١٧ يونيو ٢٠٢٣


يحرك السفر والارتحال شعور الإنسان بالدهشة، ويولّد في نفسه أسئلة جديدة تحفّز سواكن الأفكار، ويكشف أمامه مساحات جديدة من الإجابات. فعندما يستشعر الإنسان أن حياته قد بدأت منذ وجود الجنس البشري على الأرض، فإنه يقف أمام رحلة قديمة بدأت قبل وجوده الشخصي بآلاف القرون. فالشعور بالانتماء إلى مكان من الأمكنة لا يوقف إحساس الإنسان بالاغتراب بمعناه الروحي والوجودي.
في السَفر يُسْفر المسافر عن أخلاقه ويُظهر ما خفي منها. والجذر اللغوي لكلمة سفر يأتي بمعنى الوضوح والإشراق «والصبح إذا أسْفر»، كما يأتي بمعنى الارتحال، ومن شأن السفر أن يوسع المدارك، لذا ارتبط السفر بالحركة العلمية؛ والإسفار عكس معنى التغطية التي تتضمنها كلمة الكفر، وكأن حركة الإنسان وارتحاله من المكان تحرك في الفكر أسباب المعرفة ودواعي الإيمان.
ومن الأبعاد الحضارية للأسفار عقد «الإيلاف القرشي»، الذي أجراه هاشم بن عبد مناف مع ملوك الشام، وأوجد مصلحة مشتركة في تبادل المنافع بين طريق الشام والحجاز، ثم عقد أبناؤه مع ملوك اليمن عقوداً مشابهة، فكانت هذه العقود سبباً لخلق مصلحة مشتركة بين شعوب المنطقة أسهمت في الأمن من الجوع ومن الخوف، وقد امتنَّ القرآنُ الكريم على قريش بهذه النعمة ووجههم لشكر المنعم سبيلاً لدوامها «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ» (قريش: 3 ـ 4).
يربط الإيمان بين رحلة الإنسان على الأرض ورحلته إلى السماء، وقد استعمل الفكر الصوفي في الإسلام تسمية السَّفر في حديثه عن رحلة الإنسان وسعيه في البحث عن معرفة الله وتحقيق السعادة الروحية، كما نجد ذلك عند محيي الدين بن عربي في كتابه «الإسْفار عن نتائج الأسْفار»، والذي يقسم فيه السفر، عند العارفين، إلى ثلاثة أنواع: سفر من الله وسفر إليه وسفر فيه.
إن تباعد القلوب يمكن أن يفرق بين أبناء الوطن الواحد، بينما تتقارب الأماكن البعيدة عندما تأتلف القلوب وتتفق الغايات، والوحدة هي من أعظم غايات الحج الذي يفِد الحجاج فيه من كل أقطار الأرض إلى بيت الله الحرام «وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات» (الحج:27 - 28).
ومن مقاصد الحج أنه يُمثّل تجسيداً عملياً لقاعدة «تعظيم الجوامع واحترام الاختلافات»، وهو ما يعيننا على فهم خريطة التنوع الثقافي والديني في مجتمعاتنا، وهنا يمكننا أن نفهم الاختلاف بين المدارس الإسلامية في التاريخ الإسلامي باعتباره تنوعاً مثمراً أسهم في نهضة الأمة وصياغة مشروعها الحضاري.
وتُنبهنا مواسم الحج إلى أهمية الربط بين أهمية دروب الحج ودروب الأفكار في التقريب بين الأمم والشعوب. فالمدن المقدسة ليست مجرد أماكن لأداء الطقوس والعبادات، وإنما هي مراكز روحية وثقافية وتجارية تجمع بين الدنيوي والمقدَّس بطريقة فريدة. بالإضافة إلى كونها تربط بين الديني والاقتصادي. وقد فهم بناة الحضارة الإسلامية أن عمارة الأرض نوع من العبادة، فنجد الأسواق تنتشر على طريق الحج من سمرقند إلى الحجاز، وهو ما يعرف بطريق الحرير، كما استطاع الآباء أن يمزجوا بين السمو الروحي في زيارة الأماكن المقدسة وبين التنمية المستدامة في فتح الأسواق سبيلاً للقضاء على الفقر والجوع والعوز.
في سياقنا الإسلامي، نحن أحوج ما نكون إلى فكر يُعمِّق العلاقة بين محبة آل البيت، الذين أمر الله بمحبتهم «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى». (الشورى: 23)، وبين محبة أصحاب الرسول الذين امتدحهم الله بقوله «مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ» (الفتح: 29)، وهو ما يقدم لنا نظرة كلية تُعمّق فينا روح الوحدة والوئام. يشكِّل الاختلاف بين الأمم والشعوب مجالاً تفاعلياً يُفضي إلى الغيريّة الفعّالة، فالتعارف البشري هو عملية تبادلية تقوم بها مجموعات مختلفة ومتنوعة كما يؤكد القرآن الكريم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (الحجرات: 13).
لا يمكن للعقلاء أن يقفوا صامتين أمام زيادة عوامل الفرقة بين المسلمين ومحاولة تجذيرها وإعطائها شرعية دينية، ولا يمكن لنا أن نغفل خطورة خطابات التكفير والتجريح بين المسلمين، والتي تجتاح مساحة واسعة من منصات التواصل الاجتماعي.
إن حدّة الاختلاف بين أتباع الدين الواحد والثقافة الواحدة تزداد كلما تراجعت أخلاق الأمم وارتكست معارفها، وهذا ما رأيناه في التاريخ الغربي الوسيط، حيث وقع الصراع لعقود طويلة بين الكاثوليك والبروتستانت.
لا يمكن أن يكون الانفتاح على الفكر الإنساني الكوني عميقاً ومجدياً من دون الانفتاح على التنوع الداخلي في سياقاتنا الثقافية والدينية، وكلما كان التنوع الداخلي أكثر ثراء واتساقاً، نجحنا في استيعاب التنوع الخارجي والاستفادة منه.
يمثل إعلاء كرامة الإنسان واحترام خصوصيته الثقافية والدينية شرطاً أساسياً لأي مشروع حضاري قابل للحياة. ومن شروط هذا المشروع أيضاً الابتعاد عن منطق الأغلبية والغلبة والمُغالبة، الذي يُفضي لا محالة إلى الإقصاء وإشاعة أجواء الاستبداد. فنحن اليوم أحوج ما نكون إلى التأكيد على مشروعية «الحق بالاختلاف»، عوضاً عن الانجرار وراء منطق القوة الذي تتماهى فيه القوة مع الحقيقة، ويصبح الضعيف فيه هو الباطل عينه!
وبعيداً عن منطق القوة، يؤكّد القرآن الكريم وجود تناقض جوهري بين الإكراه الديني من ناحية، وطبيعة الإيمان الديني من ناحية ثانية، فالإيمان في جوهره قائم على حرية الإرادة والاختيار، كما يعلمنا القرآن: «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (الكهف: 29).

[ تم التعديل: الثلاثاء، 19 مارس 2024، 10:30 AM ]
 
أي شخص بالعالم

الجمعة م ٢٠٢٣/٠١/٢٧ | هـ ١٤٤٤/٠٧/٠٦

من جديد تَظهر في خلفية مَشاهد حادثتَي تمزيق المصحف وحرقه في كل من السويد وهولندا، صورة جلية للتناقضات الناتجة من اختلال مفهوم الحرية بصفة عامة، ويشمل ذلك مفهوم حرية التعبير. فالمشكلة الكبرى لا تكمن في عدم ملاءمة ما يُبرَّر قانونيًّا لبعض أشكال التعبير عن الحرية لبعض المواطنين المتشددين أو المتطرفين، ولكنها تكمن في اختلال مفهوم الحرية في الغرب، الذي جاء في سياق محاولة تحرر العقل الغربي من قيود هيمنة المؤسسة الكنسية القروسطية، وهو ما جعل الشعور بالحرية ممزوجًا بالابتعاد عن الدين وتمثلاته القهرية المختلفة.

فنحن أمام نظرتين متعارضتين إلى العلاقة بين حرية التعبير واحترام الرموز الدينية: الأولى تقدِّس حرية التعبير وتضعها فوق الرموز والمقدسات الدينية، وتجعل ازدراء المقدسات أمرًا قانونيًّا ومشروعًا. والثانية تحترم حرية التعبير، وتضع لها حدودًا تنسجم مع احترام الرموز والمقدسات الدينية. إزاء ذلك التعارض يجب أن نحيي مفهوم "مسؤولية التعبير"، وأيضًا يجب تأكيد المنطلقات الأساسية في بناء مجتمعاتنا البشرية، وهي أن احترام الرموز الدينية بكل تجلياتها الروحية والتاريخية والجغرافية يمثل مُسلَّمة أخلاقية بدَهيَّة، لا يمكن التفريط فيها أو التنازل عنها في منظومة القيم الإنسانية المشتركة، مع إدراكنا جميعًا بأن أكثر الدول تقدمًا في العلوم والتكنولوجيا يمكن أن تعاني بعض مظاهر الجهل والكراهية والتمييز، وهو أمر ينبهنا إلى أهمية الدين ودوره في الارتقاء بالسلوك الأخلاقي للإنسان.

في هذا المجال، أشير إلى أنني كنت قد حظيت في عام 2006 بشرف إطلاق مبادرة "رحلة العيش المشترك"، مع مركز الأبحاث "Monday Morning” (مقره كوبنهاغن)، جنبًا إلى جنب مع قادة من أنحاء العالم وخبراء وسياسيين، عملوا على تحديد وترتيب أولويات التحديات الرئيسية التي تهدد الجهود العالمية في العيش الديني المشترك. ومن بين التحديات الخمسة الرئيسية كان: تمكين الضعفاء، وضمان حرية الدين، وإيجاد فضاءات عامة للتعايش، وضمان استقلال القضاء، وتوسيع مفهوم الأمن الانساني. ولا بد من التنويه أيضًا بما صدر عن المجلس الأوروبي، من تشديد على أن النقد والتعبير عن الرأي يجب "أن لا يرقى إلى مستوى التحريض على الكراهية الدينية"، وأن أولئك الذين يمارسون حريتهم في التعبير، عليهم واجب ومسؤولية "أن يتجنبوا قدر الإمكان التعبيرات التي تسيء إلى الآخرين دون مبرر".

يتمثل التحدي الأكبر بكيفية التعامل مع هذه الإساءات، والردّ عليها بطريقة تنسجم مع قيمنا الأخلاقية والروحية، التي جاءت بها تعاليم القرآن والكتب الإلهية. فالقرآن يعلّمنا أن رسالة الإسلام إلى البشرية لا تتحقَّق إلا بثلاث طرق لا رابع لها، وهي: ﴿ادْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضلَّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين﴾ [سورة النحل: 125].

بحسب قاعدة التضامن الروحي، إنَّ الإساءة للكتب المقدسة والأماكن والرموز الدينية إنما تُسيء للقيم الدينية والروحية، التي يؤمن بها عموم أتباع الأديان من مختلف الأمم والشعوب. فالإساءة لدين واحد هي إساءة لجميع الأديان ومقدساتها، وذلك يتعارض والقاعدة الذهبية التي نادى بها المسيح بقوله: "فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم" (متى 7: 12). وقد أكد رسولنا محمد (ص) هذه القاعدة الأخلاقية بقوله: "لا يُؤْمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (رواه البخاري).

إنَّ حرق الكتب -على العموم- ظاهرة قديمة في المجتمعات، أخبرنا التاريخ عن أمثلة متعدّدة لها، مثل ما قام به المغول في بغداد عام 1258م، وحرق الكتب في أسرة "تشين" الصينية في القرن الثالث قبل الميلاد، وحرق الفرنجة لمكتبة طرابلس الشام في بداية القرن الثاني عشر للميلاد، وحرق "أبو يوسف المنصور" لكتب ابن رشد في إشبيلية عام 1194م، وما فعلة الأسقف "خيمينيث" الذي أمر بحرق الكتب الإسلامية في غرناطة بعد استسلامها للقشتاليين سنة 1492م. لكن يعلّمنا التاريخ أيضًا أن الممارسات العنصرية تبدأ من الكراهية والتمييز، قبل اقتراف جرائم القتل والإبادة الجماعية. فإن معاداة وشيطنة أي عرق أو دين أو ثقافة، هو "معاداة للإنسانية" في معناها الأخلاقي العميق.

لم يعد أمامنا وقت لنضيعه في صراعات هامشية. فالعالم اليوم يواجه تحديات معقدة لا تبعث على التفاؤل، ومنها الصراعات العسكرية وتغير المناخ. يجب علينا العمل على تعزيز منظومة الحقوق العالمية، التي لا تقبل التنازل في جوهرها المتمثل بتحقيق الكرامة الإنسانية للجميع. فمن واجبنا جميعًا أن نقف صفًّا واحدًا ضد التعصب والعداء، وأن ندافع بدلًا من ذلك عن الوئام والتقارب الثقافي.

إنما يقوم بالتحريض على أعمال الكراهية أولئك الذين يعانون جهلًا عميقًا بالآخر، ويقعون في دائرة من اللوم المتبادل وتوجيه أصابع الاتهام. فالمطلوب اليوم هو نهج مركزُه الإنسان، يقوم على أساس "شمولية التعلم حول الدين وحقوق الإنسان"، بحسب ما جرى تأكيده في تقرير المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان. يجب أن نصبح شركاء حقيقيين وفاعلين مؤثرين في الإنسانية، عوضًا عن الخوف من "الآخر"، ويجب علينا التركيز على الحوار والتعاون بين أتباع الأديان كنهجٍ للسياسة الخارجية وبناء السلام على المستوى المحلي والإقليمي والدولي. وإذا تم تحقيق ذلك من خلال إطار حضاري يحترم الخلاف، فإنه سيؤسس لنظام إنساني عالمي جديد، تُحترم فيه الأديان وكرامة الإنسان.

[ تم التعديل: الثلاثاء، 19 مارس 2024، 10:52 AM ]
 
بواسطة الأحد، 17 مارس 2024، 3:04 PM - منصة الحسن
أي شخص بالعالم

الأحد 24 من جمادي الأولى 1444 هــ 18 ديسمبر 2022 السنة 147 العدد 49685

يقول شاعر النيل حافظ إبراهيم:

أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُّرُّ كامِنٌ فَهَل سَأَلوا الغَّوّاصَ عَن صَدَفاتي
نستذكر هذا البيت، الذي يمرّ هذا العام 150 عامًا على مولد قائله، والعالم يحتفي باليوم العالمي للغة العربية، الذي يوافق الثامن عشر من ديسمبر من كل عام، وهو اليوم الذي اتخذت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1973 قرارها التاريخي باعتماد اللغة العربية لغة سادسة في المنظمة.
تمثّل اللغة من الناحية الوجدانية والشعورية روح الأمة. أما من الناحية الثقافية والحضارية فهي الوسيلة الناقلة للأفكار والمعرفة والتقاليد والخبرات عبر الأجيال المتعاقبة في تاريخ الأمم والشعوب. ولا يمكن أن ينمو التفكير من غير اللغة. فاللغة هي التي تمدّ الفرد بالألفاظ التي تطلق على المعاني الكلية وهي التي تمكنه من السموّ بفكره من المحسوسات إلى المجردات وربط المعاني الكلية بالألفاظ الدالة عليها والتمييز بين أسماء الأشياء وأسماء الأجناس.
اللغة هي وعاء للفكر وأداة للتفكير. فهي وسيلة التفاهم والتواصل الاجتماعي. ولكنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأفكار التي تنقلها وتتأثر وتؤثر بها. يقول الفيلسوف الألماني فشْته: إن اللغة تؤثر في الشعب الذي يتحدث بها تأثيرًا لا حد له، يمتد إلى تفكيره وإرادته وعواطفه وتصوراته، وإلى أعماق أعماقه، وإن جميع تصوراته تصبح مشروطة بهذا التأثير ومتكيّفة به.
نحن دومًا في حاجة إلى التفكّر في واقع لغتنا وطرائق النهوض بها وتقديم الدعم لها بكافة السبل. ولا ريْب في أن لغتنا العربية جديرة بأن نبذل المزيد من أجل أن تبقى حيّة على الألسن؛ حاضرة في الأقلام؛ سامقة في مكانتها بين غيرها من اللغات العالمية. فاللغة، بالنسبة لنا، لا تنفصل عن الانتماء لديننا وحضارتنا وهويتنا.
وتنبئُ مسيرة اللغة العربية في العصر الراهن بأنها آخذة في التطور والانتشار، حيث نجد اتساع نطاق استعمالها، وازدياد نسبة التعليم بها، واستيعابها في مصطلحاتها لمعظم منجزات العصر الحديث، وتقنيات التقدم العلمي. إن خير سفير للغة العربية اليوم هو تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها بسبب زيادة الرغبة لدى الأفراد والشعوب في مشارق الأرض ومغاربها في تعلم اللغة العربية. وهو أمرٌ لم يحصل بهذا الزخم في القرون الخالية.
وقد رافق ذلك مظاهر تأثير الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في اللغة العربية، وما نجم عن ذلك من مشكلات لغوية. كما زاد اهتمام الباحثين الجادين في مجال حوسبة اللغة العربية الذي يحظى باشتغال الحاسوبيين واللسانيين، ويواجه تحديات كبيرة في مجال التطوير وتوفير الموارد والتقنيات الضروري.
لا بد من تعزيز التفاعل بين اللغة العربية والعلوم الحديثة الأخرى في التدريس والبحث والتأليف والترجمة. بذلك، تواكب اللغة العربية العصر التكنولوجي الراهن باستيعاب المفاهيم والمصطلحات العلمية الحديثة.
نشهد اليوم عصر الاتصالات والمعلومات، والمعرفة، والحكمة، والترفيه الذي نواجه فيه تحديات جمة، ويفتح أمامنا في الآن نفسه آفاقًا واسعة. وإذ يقف العالم على أعتاب عصر الثورة الصناعية الخامسة، التي تُركّز على دمج التكنولوجيا الحديثة مع الذكاء البشري بدرجة أكبر ممّا كانت عليه في الثورة الصناعية الرابعة، فإن الثورة الصناعية الخامسة تهدف إلى إقامة علاقة أكثر توازنًا بين التقنيات الحديثة والإنسان. عندئذ، يكون الاعتماد على استخدام الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة وإنترنت الأشياء بشكل متصاعد مع التركيز على استعمال الذكاء البشري أيضًا بشكل كبير. بذلك، يتحقق الجمع بين الذكاء الاصطناعي في تنفيذ الأعمال ذات الطبيعة المتكررة والذوق الإبداعي للإنسان.
لا شك في أن هذه الثورة ستُسهم في اتساع نطاق العمل عن بعد بشكل كبير وستزيد من التفاعل بين الروبوتات والبشر وسيكون للتقنيات المستخدمة ضرر أقل على الإنسان والبيئة.
وأخيرًا، يذكرنا اليوم العالمي للغة الضاد بضرورة تكثيف الجهود في سبيل الاستمرار في إغناء الاستعمالات المختلفة للغة العربية وتشجيع الترجمة منها وإليها. وإذ نعيش حقبة زمنية اختلطت أحوالها وانقلبت موازينها، ما أثّر سلبًا في واقعنا السياسي والاجتماعي والفكري والثقافي، حتى إن الأمر طال لغتنا وحضارتنا ومسّ – في الآن نفسه - هويتنا، فإنه يعوّل علينا كثيرًا في إنصافها، ويؤمّل فينا الذّوْد عنها والدفاع عن حياضها، وعلى قَدْرِ أهلِ العَزمِ تأتي العَزائمُ.

[ تم التعديل: الثلاثاء، 19 مارس 2024، 10:14 AM ]
 

  
loader image