تخطى إلى المحتوى الرئيسي
الصفحة الرئيسية عن منصة الحسن تواصل معنا

مدونة الموقع

بواسطة الأحد، 17 مارس 2024، 3:03 PM - منصة الحسن
أي شخص بالعالم

السلطات الإسرائيلية تسعى إلى تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى.

 

الأربعاء 2022/04/20

لم يكن ما حدث صباح الجمعة الثالث عشر من رمضان من اعتداء على المصلين الآمنين في المسجد الأقصى المبارك بعد صلاة الفجر وليد اللحظة أو مبهمًا لأي طرف من الأطراف، ولم يأت فجأة دون مؤشرات أو مقدمات؛ فالعمليات العسكرية واقتحام المدن والمخيمات الفلسطينية ووقوع عدد كبير من الشهداء والجرحى كان حاضرا في ذلك المشهد الدموي المؤلم.

يبدو أن العالم والمجتمع الدولي ما زالا منشغلين بما يجري في العمليات العسكرية الروسية الأوكرانية على حساب القضايا الأخرى وفي صدارتها القضية الفلسطينية. وكالعادة فإن الحكومة الإسرائيلية تسعى إلى استغلال هذه الأوضاع لتنفيذ مخططاتها الاستيطانية والتوسعية.

بالرغم من كون المسجد الأقصى منطقة محتلة وفق القانون الدولي إلا أن ازدواجية المعايير لكثير من الحكومات الغربية بقيت تحول دون اتخاذ مواقف منصفة للشعب الفلسطيني، وما الموقف الغربي تجاه ما يحصل في أوكرانيا إلا مثالا على تلك الازدواجية.

يتعرض المسجد الأقصى المبارك منذ عام 1967 إلى اعتداءات إسرائيلية متواصلة، ولعل أبرزها محاولة إحراقه عام 1969، واقتحام أرئييل شارون لساحاته في سبتمبر عام 2000، وما أعقب ذلك من قتل للعشرات من المصلين وانطلاق لشرارة انتفاضة الأقصى.

ولقد عمدت السلطات الاسرائلية ومنذ سنة 1967 إلى العمل على تهويد ما يحيط بالمسجد الأقصى المبارك، ومن ثمة وضعت استراتيجية تهدف إلى خلق واقع جديد وفق خطة متدرجة تستبدل من خلالها (الوضع الراهن) للمسجد الأقصى المبارك.

من غير المقبول لأي طرف استغلال تزامن الروزنامة الدينية في سياقاتها الإسلامية والمسيحية واليهودية، حيث شهر رمضان المبارك، والجمعة العظيمة وأحد الشعانين وعيد الفصح المجيد المسيحي، وعيد الفصح اليهودي. بل كان حريا لهذا التزامن أن يوسع إدراكنا ووعينا لإدارة الفضاء الديني بعيدا عن الاستغلال السياسي والتضليل العقائدي.

يجب أن ندرك حجم التضليل الفكري والعقائدي الخارجي الذي شاب تاريخ القدس والقضية الفلسطينية عموما، وما نتج عنه من مواقف وقرارات خاطئة، وأشير هنا إلى قول الباحث الأميركي إيان لوستيك في كتابه الأصولية اليهودية: “إن بعض الأميركيين يشاطرون كثيرين من الإسرائيليين الجهل والخطر بالعقائد”.

ليست المشكلة ببعض المعتقدات الدينية المتعلقة باليهود، خاصة إذا كنا نتحدث عن اليهود العرب الذين عاشوا قرونا طويلة جنبا إلى جنب مع المسلمين والمسيحيين وغيرهم من أتباع الأديان في ظلال الحضارة العربية الإسلامية، وإنما تكمن المشكلة في الصراعات السياسية والمصالح المادية.

وهنا يمكننا أن نستحضر أهمية الحديث عن الثقافات المشرقية التي تختزن في جنباتها روح الإشراق ووحدة الضمير الإنساني والقيم البشرية الجامعة.

إن المعنى الحقيقي للحوار بين أتباع الأديان يتمثل أولا بتحقيق العدالة ورفع الظلم بينهم. فلا يمكن للعقائد أن تتوافق وأتباعها يستغلونها لإدامة الظلم والاحتلال وفرض الأمر الواقع. كما لا يعقل أن تستمر الشبكة الاستعمارية المعقدة في إنتاج رؤى استعمارية كلّ على حساب الآخر في صراع لعبة الأمم في الفضاء الأوراسي (أوروبا – آسيا).

إن الكتب المقدسة تقف شاهدا على عدالة الله ورفض العدوان والاستهانة بالأماكن المقدسة باسمه تعالى، وهنا أذكر قول النبي إرميا: “أتسرقون وتقتلون وتزنون وتحلفون كذبا وتبخرون للبعل، وتسيرون وراء آلهة أخرى لم تعرفوها. ثم تأتون وتقفون أمامي في هذا البيت الذي دعي باسمي عليه وتقولون قد أنقذنا”. (7: 9-10)

ومن مفارقات التاريخ أن هذه المدينة لم يشفع لها اسمها الكنعاني القديم “أوروسالم” الذي يعني “مدينة السلام” بأن تكون “مدينة صراع” ودربا للآلام والخوف نتيجة للاحتلال والطغيان.

لقد قامت السلطات الإسرائيلية عام 1980 بضم القدس وأعلنتها عاصمة أبدية وموحدة، في خطوة لم يعترف بها المجتمع الدولي الذي بقي يعتبر القدس الشرقية مدينة محتلة.

وخلافا لهذا الاتجاه، فقد حرّم الكثير من رجال الدين اليهود الصعود إلى ما يسمونه “جبل الهيكل”، والذي يدعي بعض اليهود وجوده تحت المسجد الأقصى، وأذكر هنا ما قرره العشرات من الحاخامات اليهود بعد احتلال الحرم القدسي عام 1967 من حظر لدخول اليهود إلى منطقة جبل الهيكل. باعتباره مخالفا لقانون (الطهارة)، بسبب عدم تحديد موقع الهيكل الثاني، وإمكانية أن يهتك أي يهودي حرمة قدس الأقداس.

وفي عام 2014، انتقد كبير حاخامات السفاراديم أبناء ملّته من اليهود الذين يقتحمون ساحات الأقصى، وقال إنهم هم السبب الأول في سفك دماء بني إسرائيل، لأنهم “يقومون باستفزاز العرب؛ مثلهم كمثل من يسكب الزيت على النار”.

وعلى كل الأحوال، فقد أسهم ظهور عدد من المجموعات الدينية المتطرفة والمختلفة، التي ارتبطت باسم “الهيكل” مثل حركة “أمناء جبل الهيكل”، وغيرها من التنظيمات في زيادة التحريض على الاعتداء على المسجد الأقصى.

وفي ذات الإطار فإن بعض الدراسات تشير إلى أن شرائح من المجتمع الإسرائيلي تنحو إلى المزيد من التطرف إزاء المسجد الأقصى وساحات الحرم الشريف. ففي استطلاع للرأي العام، أُجري في عام 2013، أورده مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، بلغت نسبة المؤيدين لتغيير الوضع القائم في الحرم الشريف 59 في المئة على غرار ما جرى في الحرم الإبراهيمي في الخليل.

ولا ننسى منع وصول المصلين المسيحيين إلى كنيسة القيامة بكلّ حرية في عيد الفصح المجيد هذا العام وغياب البهجة التي كانت تحيط بأقدس الكنائس المسيحية في العالم، فلم نشهد حشدا مسيحيا أمام ساحة الكنيسة، كما كان ذلك قبل سنة 1967. وهذا مساس بحرية العبادة المكفولة إنسانيا وقانونيا وأخلاقيّا ولا يمكن لها أن تتجزأ أو أن تتشارك.

إن الهدف الذي تسعى إليه السلطات الإسرائيلية هو تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى. ورغم كل شيء فلن ينجح الاحتلال في إخضاع الشعب العربي الفلسطيني الصامد ولن ينجح العنف والترهيب في إضعاف الفلسطينيين وكسر إرادتهم وهم يقفون باسم الوطن والأمة وقفة رجل واحد.

واليوم تظهر من جديد طائفة من المقدسيين تحمي المسجد الأقصى بشّر بها النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الشريف: “لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من الأواء، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك”، قالوا: “يا رسول الله وأين هم؟” قال: “ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس”. (مسند الإمام أحمد).

وختاما فإنّ مسجدا بحجم ومكانة المسجد الأقصى المبارك، لا يمكن إلاّ أن يبقى حيّا في وجدان وضمير الأمة، فهو أولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين الشريفين، وهو المسجد الوحيد الذي اقترن اسمه بالمسجد الحرام في القرآن الكريم في سورة الإسراء.

[ تم التعديل: الثلاثاء، 19 مارس 2024، 10:58 AM ]
 
بواسطة الأحد، 17 مارس 2024، 3:02 PM - منصة الحسن
أي شخص بالعالم

 نشر الأربعاء، ٢٠ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢١

أمام استمرار الاعتداءات على أماكن العبادة وسفك دماء المصلين، وأمام ما نَراهُ من اعتداءات متكررة على أرواح المصلين الآمنين، أقول إنّ هذه الاعتداءات هي جريمةٌ كُبرى لا يقبلُها إنسان، فالمساجد والكنائس ودور العبادة هي بيوت الله، ومُصّلى للمؤمنين بهِ. أرسى القرآن الكريم قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا قواعد أخلاقيّة وإيمانيّة تحول دون استهداف أماكن العبادة وذلك في كريم قوله تعالى: «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» (الحج 40) فمن فضل الله على الناس أنه جعل بعضهم يدفع بعضًا بعيدًا عن العدوان على أماكن العبادة، وقد قدم الله تعالى في الآية السابقة أماكن العبادة لغير المسلمين على المساجد، وذلك حتى يجعلهم يحرصون على سلامة أماكن العبادة لغيرهم كما يحرصون على حماية مساجدهم، وليكون المسلمون قدوة لغيرهم في الحفاظ على أماكن العبادة بأجمعها. يؤكد القرآن الكريم أن منع حرية العبادة وتخريب المساجد هو من أقبح أشكال الظلم والعدوان «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا» (البقرة:114) فتدمير أماكن العبادة يمثل وجها آخر للإبادة الجماعية، وكما أن قتل انسان بريء واحد هو كقتل البشرية جميعًا فإن تدمير مسجد أو مكان عبادة واحد هو بمثابة تدمير لحرمة أماكن العبادة لأتباع الأديان جميعهم. يتعارض استهداف دور العبادة مع القواعد الاخلاقية والشرعية في الاسلام، فالشريعة الإسلامية تقوم على مبدأ العدالة في التعامل مع الناس جميعًا. والتمييز بين الأهداف العسكرية والأماكن الدينية والمدنية الذي كان مبدأ اسلاميًا أصيلاً سبق اتفاقية لاهاي عام 1907 والتي نصّت على اتخاذ كافة التدابير اللازمة لتفادى الهجوم، قدر المستطاع، على المباني المخصصة للعبادة والفنون والعلوم والأعمال الخيرية، والآثار التاريخية والمستشفيات والمواقع التي يتم فيها جمع المرضى والجرحى. ينص الإعلان العالمى لحقوق الإنسان عام 1948، على حق الانسان في حرية العبادة وإقامة الشعائر بقوله: لكل إنسان حق في حرية الفكر والوجدان والدين. ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، وحريته فى إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة. إن استهداف الغلاة أو الطغاة لأماكن العبادة لا يقل خطرًا عن استهدافهم للأماكن الأثرية والتراث الحضاري المعماري وسعيهم لطمس الذاكرة الحضارية والانسانية. وهنا نستحضر ما قام به الغلاة بتدمير مقام النبي يونس في الموصل عام 2014، واستهداف قلعة الكرك عام 2016. ونذكر أيضًا تحطيم الآثار الآشورية والكلدانية وتحفها النادرة الموجودة في متحف الموصل، وفي مدينة نمرود التي تعد إحدى أهم عواصم الإمبراطورية الآشورية القديمة، وكذلك ما حدث من تدمير لآثار مدينة الحضر الأثرية التي تقع غرب مدينة الموصل ويعود تاريخها إلى القرن الثاني قبل الميلاد. وفي هذه الأيام التي نعيش فيها ذكرى ميلاد المصطفى عليه الصلاة والسلام الذي أرسله الله رحمة للعالمين نستذكر النهج النبوي الذي نقتدي به في قبول الاختلاف واحترام الآخر وأقول: لقد آن الأوان لأن نرفض خطاب الكراهية والاستقطاب الذي يثير الاحقاد ويبرر سفك الدماء. وهنا أشير إلى إجماع أكثر من 200 عالم من كبار علماء المسلمين في مؤتمر رسالة عمان عام 2005 وتأكيدهم جميعًا على حرمة تكفير المسلمين من مختلف مدارسهم الاسلامية وتحريم المساس بدمهم وعرضهم ومالهم. ولكن هذا الإجماع لا يزال بعيدًا عن عقول وقلوب الغلاة المتعصبين الذين يمتهنون خطاب الكراهية والطائفية. وهنا أعود الى كلام الشوكاني -رحمه الله- حيث يقول: ها هنا تُسكَب العَبَرات، ويُناحُ على الإسلام وأهله بما جَناه التعصب فى الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكُفر لا لسُنّةٍ، ولا لِقرآن، ولا لبَيانٍ من الله، ولا لِبُرهان، بل لمّا غَلت مراجِلُ العَصبيةِ في الدّين، وتَمكنَ الشيطانُ الرجيم من تفريق كَلمة المسلمين (كتاب السَيل الجرّار). وفي الختام أقول: إنّ كل اعتداء على المصلين الآمنين في مساجدهم وأماكن عبادتهم انما هو اعتداء على القيم الجوهرية للدين. وعندما يعلن بعض الغلاة المنتسبين للإسلام مسؤوليتهم عن قتل المصلين في مساجدهم فإنما يقدمون للغزاة المحتلين تسويغًا لإسقاط حرمة أماكن العبادة والاعتداء عليها في المسجد الاقصى وفي الخليل وفي كل مكان.  

[ تم التعديل: الثلاثاء، 19 مارس 2024، 10:36 AM ]
 
أي شخص بالعالم

الثلاثاء 29 من رمضان 1442 هــ 11 مايو 2021 السنة 145 العدد 49099


تلتقى الأمم والشعوب على جوامع قِيَميّة مشتركة من شأنها أن تؤسس لروابط وعلاقات راقية تخدم البشرية بأجمعها. وتعدّ القيم الأخلاقيّة على وجه التحديد من أهم القيم التى يجتمع على تعظيمها الناس فى مختلف العصور والدهور.
تحثّنا القراءة المعمّقة للدين والدنيا على تعظيم الجوامع والمشتركات بين الناس وذلك من خلال أركان ثلاثة تبدأ من الايمان بوحدة الخالق، ثم الايمان بوحدة الأصل البشري، وتنتهى بوحدة المعيار الأخلاقى فى التعامل مع الناس، وتتوضح هذه الأركان الثلاثة فى قوله عليه الصلاة والسلام: يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كُلّكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربى على أعجمي، ولا أعجمى على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا أبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى (رواه الترمذى).
لا يمكن للبشرية أن تواجه التحديات التى تجتاح كوكبنا كالأوبئة والكوارث الطبيعية وغير الطبيعية دون التعاون والتضامن، وهذا يستدعى تعزيز مفهوم القيم الانسانية المشتركة. وخلافا لما قد يعتقده البعض فإن القيم الانسانية المشتركة بمعناها العميق لا تُضعف الشُّعور بخصوصيَّة المعتقدات الدِّينيَّة، ولا تناقض الهُويَّة الثقافية أو الوطنية. فمهما اختلفت الأمم والشعوب فى عقائدها وثقافاتها، فلا بد من وجود مشتركات تجمع بينها.
إن مهمة الدين الأساسيّة هى تكميل وتقويم مكارم الاخلاق. ونستجلى ذلك بوضوح فى تأكيد القرآن على وحدة القيم الاخلاقية بين الناس من خلال تحريم الاعتداء على النفس البشرية، واعتباره الاعتداء على نفس واحدة هو بمنزلة الاعتداء على الناس جميعا، وكذلك فإن الاحسان إلى نفس واحدة هو إحسان للناس جميعا.
تتكثف فى شهر رمضان معانى القيم الانسانية بمعناها الأرحب، فرمضان هو شهر الرحمة والجود والتكافل والمواساة. وتكفينا هنا الاشارة القرآنية إلى اتصال تشريع الصيام بالشرائع السابقة التى تنزّلت على أنبياء الأمم الأخرى فى قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ», فهى تشعرنا بأهمية استحضار المشتركات الدينية والقيميّة بين الأمم وأثرها فى إقامة شعائرنا الدينية الخاصّة والتى تهدف فى نهاية المطاف إلى غاية واحدة تتمثل بتزكية النفس وتحقيق الرقى الروحى والاخلاقي.
تُعزز القيم المشتركة مفهوم الأخوة الإنسانية، ونجد هذا المفهوم جليّا فى رسالة البابا كلنا إخوة كما فى قوله: تعالوا نحلم باعتبار انتمائنا إلى إنسانيّة واحدة، وباعتبارنا عابرى سبيل خُلِقنا من اللحم البشريّ نفسه، وأبناءٌ لهذه الأرض نفسها التى تؤوينا جميعًا، وكلّ منّا يحمل غنى إيمانه أو قناعاته، وكلّ منّا بصوته الخاص، وجميعنا إخوة. فالأخوة الانسانية قيمة عالمية وحقيقة تاريخية وايمانية فى الوقت ذاته، وقد عبّر القرآن عن هذه الحقيقة بأجمل صورة فيقول تعالي: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)(النساء:1) فالانسانية التى صدرت من نفس ورحم واحدة جديرة بأن تجتمع بارادتها ووعيها من جديد، وهنا أقول إنَّ الزكاة هى أوضح تعبير عملى عن الأخوة الانسانية وما تحويه من معانى التضامن والتعاطف والتكافل، بالاضافة الى كونها تجسيدا لمفهوم الرحمة الذى هو غاية الرسالات والشرائع السماوية.
من القيم التى تلتقى عليها البشرية قيمة الكرامة الإنسانية، وهى قيمة تستظل فى رحابها قيمة الانسان وتتأسس حولها أخلاقيات الجوار وروح الحوار. فكرامة الإنسان هى كرامة أصلية تستمد معناها من كونها هبةً من الله للجميع. وهذا يعنى أن التمييز بين الناس على أساس اختلاف العرق أو اللون أو المعتقد، هو بمنزلة إساءة وانتقاص لتلك الكرامة الأصلية التى أنعم الله بها على الناس جميعا .
إن الاختلاف بين البشر فى الثقافة أو المعتقدات لا يمنع من إقامة علاقات أخوية تعزز التضامن والوئام بينهم. فالاختلاف مدعاة للتعارف والتعاون على فعل الخير والابتعاد عن الاثم والعدوان «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ» (المائدة: 2). والتعاون يستلزم بناء الثقة وتعزيز مفهوم الخير العام، وهذا يؤسس لبناء الاستقرار ويحدّ من إمكانية حدوث النزاعات والحروب بين الأمم والشعوب، ونستذكر هنا حلف الفضول الذى يمثل أنموذجا راقيا للتعاون بين المجتمعات البشرية، وهو يؤكد رقى القيم الاخلاقية التى كانت عند العرب قبل الاسلام ورفضهم للظلم، وقد أقرّ النبى عليه الصلاة والسلام ماجاء فى هذا الحلف بقوله: لو أنى دعيت به فى الإسلام لأجبت, (سيرة ابن كثير).
ومن القيم المشتركة التى ترتقى بها المجتمعات البشرية قيمة التعددية والتنوع، وهى قيمة تنسجم والسنن الاجتماعية التى خلق الله الناس عليها، فالخالق تعالى هو الذى أراد أن يكون الناس مختلفين؛ لأن ذلك يُحدث بينهم حراكًا معرفيًّا يرتقى بهم نحو التعارف والتعاون والتسابق فى الخيرات ، والتى تمثل بمجموعها غاية الأديان والشرائع.
تسهم قيمة التعددية فى تقبل الاختلاف وشحذ طاقات الانسان ودفعه نحو التنافس فى عمل الصالحات واستباق الخيرات «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» [المائدة: 48].
شهدنا فى العقود الاخيرة اهتزازا مؤرقا فى قيمة التعددية وتصاعدا للمشاعر العدائية والانقسامات الطائفية بين أبناء المجتمعات الواحدة فى عالمنا العربي! وهنا أقول لا معنى للتعددية الدينية دون احترام معتقدات الآخرين وحقهم فى الايمان والعيش وفقا لتلك المعتقدات. ولا بد وأن يرافق هذا الاحترام تشريعات تحمى حقوق اتباع الاديان فى ممارسة تعاليم دينهم .
اشتملت الحضارة العربية الإسلامية على تنوع ثقافى وعِرقى ولغوي، امتزج فيه العرب بالأتراك والبربر والفرس والأكراد والهنود، وغيرهم من الأعراق والقوميات. وفى الوقت الذى كان اليهود يعانون فيه من التمييز والإقصاء فى أحيائهم المعزولة (الجيتو) فى أوروبا، كان العلماء اليهود فى العراق ومصر والمغرب والأندلس جزءًا من الحركة العلمية والأدبية فى الحضارة العربية الإسلامية، وهذا يؤكد أن قوة الشعوب ورقيّها إنما يكون فى قدرتها على تجسيد قيمها الاخلاقية فى واقعها الاجتماعى والاقتصادى والسياسي. وفى نهاية المطاف لا يمكننا أن نستشعر عالمية القيم دون العمل على مساندة الشعوب المظلومة والواقعة تحت جحيم الاحتلال كما هو حال أهلنا فى القدس، وأشيد هنا بموقف شيخ الأزهر الذى انتقد فيه اقتحام ساحات المسجد الأقصى المبارك، وانتهاك حرمات الله بالاعتداء السافر على المصلين الآمِنين. فالاحتلال غير قادر على إدارة الفضاء الدينى فى واحدة من أقدس المدن على وجه الارض، ويعود ذلك إلى التناقض الجوهرى بين همجية الاحتلال وبين القيم الانسانية المشتركة التى يجمعها القرآن فى قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير»ٌ (الحجرات:13).

[ تم التعديل: الثلاثاء، 19 مارس 2024، 10:15 AM ]
 
أي شخص بالعالم

المواثيق الدولية لحقوق الإنسان لا يمكن لها أن تحقق الغاية المرجوة منها ما لم تحدث هناك نقلة نوعية في مفاهيم أساسية لدى المخاطبين بها.
الاثنين 2021/05/03


 “هذا المقال مُهدى إلى العرب الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، اعترافا بشجاعتهم وثباتهم في وجه الشدائد والصعاب، وإلى كل من يهتم مخلصا صادقا بسلام دائم، وإلى أسرتنا الأردنية والفلسطينية لما أظهرته من صمود وما بذلته من تضحيات في خدمة فلسطين وقضيتها”.
لا نجد مدينة في العالم تهفو إليها القلوب ويشترك في تقديسها أكثر من نصف سكان العالم كما هو الحال مع مدينة القدس التي تحظى بمكانة استثنائية لدى أتباع الأديان السماوية الثلاث، ولكن وإلى جانب المكانة الدينية للمدينة، فإن للقدس تاريخها العريق الذي يمتد آلاف السنين قبل الميلاد فقد سكنها اليبوسيون قبل قدوم إبراهيم عليه السلام. وهنا ندرك أنه ومهما كانت الموثوقية الدينية لمقولة الوعد الإلهي لإبراهيم بأن يجعل أرض كنعان لذرّيته، فإن ذلك لا يمكن أن يكون مبررا للظلم والاحتلال وتقويض الحقوق الطبيعية للشعوب في العيش بأمن وسلام في أوطانها.
ومن منظور أخلاقي، فقد اتخذت مدينة القدس من اسمها “مدينة السلام” معيارا قيميّا أخلاقيا يكشف اعتلال النظم التي يجترح فيها الشر والطغيان. وهنا يمكن أن نفهم كلمات إرميا النبي والتي ينتقد فيها الظلم والعدوان اللذين اقترفهما أبناء يهوذا وبنيامين في شوارع أورشليم بالقول “طُوفُوا فِي شَوَارِعِ أُورُشَلِيمَ وَانْظُرُوا، وَاعْرِفُوا وَفَتِّشُوا فِي سَاحَاتِهَا، هَلْ تَجِدُونَ إِنْسَانًا أَوْ يُوجَدُ عَامِلٌ بِالْعَدْلِ طَالِبُ الْحَقِّ، فَأَصْفَحَ عَنْهَا؟” (إرميا 1:5).
ومن جانب دولي، فقد عانت البشرية من ويلات الحروب على مر الزمن والتي خلفت وراءها الملايين من القتلى والمهجرين، فكان الحل الأممي بإنشاء منظمة دولية تقوم على أساس حفظ الأمن والسلم الدوليين. وبظهور منظمة الأمم المتحدة إلى حيز الوجود، بدأت الخطوات العملية نحو تبني قواعد أساسية للقانون الدولي تقوم على احترام الوجود الإنساني بصرف النظر عن الأصل أو العرق أو الدين. فجرى توقيع العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تكرس حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، ابتداء من مركزها السياسي وتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وانتهاء بحقها في التصرف الحر بثرواتها ومواردها الطبيعية. فلا يجوز حرمان أي شعب من أسباب عيشه الخاصة به.
وعلى الرغم من ثبات الركائز الدولية الحاضنة لحقوق الإنسان، إلا أننا لا نزال نعاني من حالة من الإنكار لحق الغير في الحفاظ على هويته وقوميته. فالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان لا يمكن لها أن تحقق الغاية المرجوة منها ما لم تحدث هناك نقلة نوعية في مفاهيم أساسية لدى المخاطبين بها، فننتقل من حالة العداء ومحاولة طمس حقائق الماضي الثابتة الراسخة، إلى الاحترام المتبادل والعيش بسلام. فالفكرة الأساسية هي التعلّم من خلال فهم موروث الآخر، وأن بناء الثقة يقود على الأقل إلى الحوار القائم على تعظيم القيم المشتركة.
بالعودة إلى الوراء، فبموجب قانون مرسوم القانون والإدارة (التعديل رقم 11) الصادر في 27 يونيو 1967 والقانون المعدل لمرسوم الهيئات البلدية الصادر في اليوم نفسه، قرر وزير الداخلية أن يشمل قانون إسرائيل وإدارتها “المدينة القديمة” ومناطق أخرى مجاورة، أي ما سمي “بلدية القدس الكبرى”. وتصرفت إسرائيل بوصفها دولة احتلال عسكري دون أي حق يجيزه لها القانون الدولي.
وتقتضي المادة 43 من تنظيمات لاهاي لسنة 1907 أن على “دولة الاحتلال أن تحترم القوانين النافذة في القُطر ما لم يحل دونها وذلك بصورة مطلقة”؛ ولا يمكن أن يتوافق قانونا الكنيست المذكوران أعلاه مع المادة 43. وهذا تعارض أساسي بين تنظيمات لاهاي ونظام إسرائيل القانوني والإداري. وتنص المادة 56 من تنظيمات لاهاي “يجب أن تُعامل أملاك السلطات المحلية… حتى حين تكون أملاكا للدولة، معاملة الأملاك الخاصة”. والمادة 46 “يجب احترام الملكية الخاصة… ولا يجوز مصادرة الأملاك الخاصة”. وحين تُفحص الإجراءات الإدارية وغيرها المتخذة بالنسبة إلى التنظيم البلدي لمدينة القدس، يتضح أن حكومة إسرائيل لم تعتبر المادتين 56 و46 ملزمتين لها، وكانت تُنفذ قانونها المحلي.
وتوجد أدلة على أن عددا من البيوت والمباني المملوكة لأفراد عرب قد هدمت أو دمرت من أجل بناء عمارات شقق كبيرة في ضواحي المدينة بالإضافة إلى الاستملاك الإجباري لأراض وأملاك والذي ليس ضروريا للغايات العسكرية إلا أنه يفي باحتياجات الإسرائيليين إلى مساكن. وهذه الإجراءات، على نطاق كبير، تقلب التوازن الديموغرافي للسكان. وحين يكون الاستيلاء مصادرة فإنه على الأرجح انتهاك للمادة 46 من تنظيمات لاهاي، وحين يُهدم عقار عربي أو يُدمر فإنه انتهاك للمادة 53 من معاهدة جنيف.
إن السكوت على هذه الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان والاستمرار فيها ستكون له تبعات جسيمة على أرض الواقع وتهديد للسلم. إن تحقيق الأمن والسلم الدوليين مرتبط ارتباطا وثيقا بالتزام الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بالقرارات الأممية والتي تجرم أفعال الاستيطان والسيطرة على الأراضي بالقوة، وتزييف الحقائق على الأرض. فضم الأراضي المحتلة ومصادرة الأملاك هو انتهاك خطير لميثاق الأمم المتحدة ولاتفاقيات جنيف، كما أنه يتعارض مع قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة التي تعتبر أن الاستيلاء على الأراضي عن طريق الحرب أو القوة هو أمر “غير مقبول”.
وبما سيتبقى من الضفة الغربية من أجزاء بعد الضم لن يكون بمقدور الفلسطينيين إقامة دولتهم المستقلة عليها. فالاستيطان سيحول الضفة الغربية إلى “بانتوستان فلسطيني”، مكون من أجزاء من أراض غير متصلة مع بعضها البعض ومحاطة بالكامل بإقليم دولة إسرائيل دون أن يكون لها أي اتصال بالعالم الخارجي. وهذا ما سيجعل المساعي الدولية وحتى لدى بعض القوى السياسية الإسرائيلية لتطبيق حل الدولتين ضربا من ضروب الخيال، إذ لا تقبل النظم السياسية والدستورية إقامة دولة إقليمها يعاني من تفكك وعدم ترابط وانعزال. 
مدينة القدس اتخذت من اسمها “مدينة السلام” معيارا قيميّا أخلاقيا يكشف اعتلال النظم التي يجترح فيها الشر والطغيان
ومن ويلات ضم الأراضي الفلسطينية أنه سيخلق واقعا سكانيا غير عادل. فالشعب الفلسطيني لن يترك أرضه أو يتنازل عنها بسهولة، والمقدسيون المرابطون في رحاب القدس وجوار المسجد الأقصى المبارك هم الطائفة المنصورة التي بشّر بها النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الشريف في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس. وبالتالي سيخلق الضم حالة مخالفة لقواعد القانون الدولي تتمثل في وجود شعبين يعيشان في نفس المكان ويخضعان لذات السلطة السياسية، إلا أنهما يتمتعان بحقوق غير متساوية. وهذا ما ستضطر القوانين الوضعية في إسرائيل إلى تكريسه بشكل واضح وجلي، فيكتمل المشهد السياسي على جريمة فصل عنصري جديد في القرن الحادي والعشرين.
أما هدم المنازل الفلسطينية ومصادرتها كإجراء عقابي، فهو يعد شكلا من أشكال العقاب الجماعي خلافا للقانون الدولي. فالعقوبات الجماعية تعد ضربا من ضروب الجرائم الدولية وانتهاكا لنصوص القانون الدولي الإنساني ومبادئ العرف الدولي. كما ينطوي هدم الممتلكات في القدس المحتلة على انتهاك صارخ للحق في الملكية الخاصة وللحق في السكن. وهذه الأفعال غير المشروعة دوليا والتي تهدف إلى تغيير ملامح المدينة المقدسة تحول دون ممارسة الشعب الفلسطيني لحقه في تقرير المصير، والذي يعد قاعدة دولية آمرة.
المنطقة العربية تعيش اليوم حالة غير مسبوقة من التوتر على كافة الأصعدة، وأصبح السلام والعيش المشترك يقبعان في آخر الأولويات. فالسعي إلى السلام بين الشعوب قد جرى هدمه بسبب التدهور الحاصل في الصراع العربي - الإسرائيلي، الذي يدخل ممرات مظلمة ستؤدي إلى زيادة حدة التوتر وتصعيد التهديد الأمني والتطرف. فالأمن مقابل السلام قاعدة حكيمة بحاجة إلى أن نؤمن بها ونسعى إلى العمل على تحقيقها، وذلك من خلال اختراق الطريق المسدود، والخروج إلى طريق هدفه الوصول إلى سلام شامل في الشرق الأوسط.
الحكمة والعقلانية تدعواننا اليوم إلى العمل من أجل زيادة استقرار دول المنطقة، في إطار تسوية عادلة تستند إلى حل الدولتين. فوسطية القدس تدعونا إلى تلمّس مفاهيم التاريخ على أساس العِبر، وليس على أساس استمرار الظلامة ومفهوم القلعة العازلة. فالقدس يجب أن تخضع إلى رؤية متكاملة، تحافظ على هويتها الدينية من جانب وتحمي المدينة التاريخية والعرب المقدسيين فيها، الذين ما فتئوا يتعرضون لعمليات الانتقام والتهويد، كتلك التي حدثت منذ أول أيام الاحتلال تجاه حي المغاربة، واليوم في باب العمود وسلوان والشيخ جراح.
لقد آن الأوان أن تكون القدس حقا مدينة للسلام، وأن يقوم الجميع بواجبهم تجاه هذه المدينة المقدسة الجريحة التي تحوي مكانة دينية مرموقة في التراث الديني الإسلامي والمسيحي واليهودي وتتميز بثراء نسيجها الاجتماعي. ولا بد من الاهتمام بتحقيق المعاملة المتساوية والرفاهية لجميع سكانها، فمصير المدينة المقدسة يهمنا جميعا فهي تعني الكثير للعالم بأسره، وما يحدث في المدينة هو بمثابة مؤشر كوني على سمو أو انحدار العلاقات بين أتباع الأديان أولا، ثم بين المجتمعات والثقافات المختلفة في حضارتنا البشرية المشتركة.

[ تم التعديل: الثلاثاء، 19 مارس 2024، 10:16 AM ]
 
بواسطة الأحد، 17 مارس 2024، 2:58 PM - منصة الحسن
أي شخص بالعالم

 

28-01-2021 

 

 

يتزامن احتفالنا بعيد ميلاد جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين هذا العام، مع بدايات احتفالات الوطن بدخول المئوية الثانية للدولة الأردنية وذكرى النهضة على مدى القرن الماضي المليء بالأحداث المصيرية (1921-2021). وهذا التزامن بين عيد ميلاد القائد وأعياد الوطن، يوحد تهانينا لجلالة الملك ولأردننا الغالي معا، بأن يجعل الله جل وعلا الأيام القادمة أيام فكر وعمل وإنجاز، إنه سميع مجيب، وبعد،
نقفُ على عتبة المئوية الثانية من عمر الدولة الأردنية، وهو حدث استثنائي لا يمر في حياتنا أكثر من مرة، فقد مرت عشرة عقود طويلة على تكوين إمارة الشرق العربي، وهي مدة كافية تعطينا فرصة القراءة الواعية لمفاصلها، لتقييمها أولا، والتخطيط الواعي لتثبيت أقدامنا في المئوية الجديدة للدولة، ونحن في إقليم مضطرب، وعالم سريع التغير، ليكون عبورنا إلى هذا الزمن الجديد آمنا، ولنعيد تعزيز دعائم الدولة بمعايير الحداثة والأصالة معا، وابتداء لا بد من تحديد المفاصل الآتية:
- ما هي الدولة التي نريد للمئوية الثانية؟
- وما هو المجتمع الذي نُخطط له في المئوية الجديدة؟
- وبالتالي، ما هي المؤسسات التي نُقيمها ونطورها في ظل إطار تشريعات عصرية قابلة للثبات والتجدد؟
- وأخيرا، ما هو خطابنا المحلي والإقليمي والعالمي للمئوية الثانية؟ ومن الذي يمكنه صياغة مثل هذا الخطاب القابل للتوازن بين هذه الدوائر الثلاث، ونحن في عالم التكنولوجيا والحداثة التي تصل حد سرعة الضوء؟ النُخب أم العلماء أم أصحاب القرار أم الجيل الشاب الذي يملك مفاتيح العصر القادم؟
الركائز والهوية أولاً:
تعد إمارة الشرق العربي من أقدم الدول التي قامت في الإقليم على أرض الدولة العثمانية المنهارة بعد المملكة السورية، وتأسست في فترة قلقة وصعبة، فقد انتهت الحرب العالمية الأولى قبل أقل من ثلاثة أعوام، وانهارت مع نهاياتها إمبراطوريات ودول، وتفتتت الدولة العثمانية لدول جديدة، ورسمت الدول المنتصرة مصير الشعوب والعالم الجديد بخرائطها واتفاقياتها السرية والمعلنة، وفي الوقت الذي نجح فيه العرب في إعلان نهضتهم، كانت الحركة الصهيونية تنفذ خطتها المرسومة بزيادة حركة الهجرة إلى فلسطين بدعم الدولة المنتدبة بريطانيا، وقد أح?طت فرنسا بصراع النفوذ بينها وبين بريطانيا مشروع سورية الكبرى والتكامل بين بلاد الشام، وقضت على أول مملكة عربية أقامتها دولة النهضة في سورية، فخرج الملك فيصل الأول من دمشق، في أول خطوة لتنفيذ اتفاقية سايكس–بيكو على أرض المشرق العربي، والتي شهدت تغيرا متلاحقا للقوى على أرضها، بحيث أصبحت بريطانيا وفرنسا هما اللاعبان الرئيسان في المنطقة، بموافقة أممية من عُصبة الأمم. في ظل هذه المتغيرات الدولية المتلاحقة، نشأت إمارة الشرق العربي على أرض شرق الأردن (كما أطلق عليها الجد المؤسس عام 1921).
شهدت منطقة شرق الأردن ما بين أعوام 1918م و1921م أحداثا مصيرية متلاحقة على أرضها، نلخصها بما يأتي:
1.    مع انطلاق النهضة العربية عام 1916م، شارك أهالي شرق الأردن في أحداثها، وانضموا لجيش الشمال مع الأمير فيصل بن الحسين، وقد سجل الأمير زيد بن الحسين في مذكراته أعداد المشاركين في الجيش من أهالي شرق الأردن ممن ساروا مع الجيش العربي من العقبة حتى دمشق، وكانوا بالآلاف، وقد حملوا راية النهضة العربية وفكرها وانضموا لصفوف الجيش العربي، ومنهم من تحول للخدمة في فلسطين وحرس الحدود والجيش العربي، وهم الذين سيشكلون المُكون العسكري والشعبي لدولة إمارة شرق الأردن عام 1921 لاحقا، وهو ما تحقق بتسمية هذا الجيش بـ (الجيش ا?عربي).
2.    مع نشأة الحكومة العربية في دمشق، عام 1918م أصبحت منطقة شرق الأردن جزءا من أول دولة عربية تقوم على أرض المشرق العربي، وشارك العديد من أهاليها في الإدارة مع الأمير فيصل، ويُسجل لنخبةٍ من رجالها مشاركتهم في المؤتمر السوري عام 1920م في دمشق مندوبين عن الأهالي، حيث تم تنصيب الملك فيصل الأول ملكا على سورية في الثامن من آذار تحقيقا لدعوة الشريف الحسين بن علي (ملك العرب) بإقامة دولة الوحدة العربية على أرض المشرق العربي، وكانت مطالب رجالات المؤتمر السوري هي الركيزة التي كونت خطاب دولة الإمارة بعد أشهرٍ من انهيا?ِ مملكة سورية، وهو الخطاب الذي أجمعت عليه كل الفئات والنخب في بلاد الشام.
3.    وتنفيذا لاتفاقية سايكس–بيكو، أطاحت فرنسا في معركة ميسلون (24 تموز من عام 1920م) بالمملكة السورية، وخرج الملك فيصل الأول من دمشق، وأصبحت منطقة شرق الأردن موزعة بين العديد من الكيانات المحلية فيما عُرف بفترة «الحكومات المحلية»، وكان الأهالي يطالبون باستقلال سورية ووحدتها ويرفضون تقسيمها، في الوقت الذي أقرت عصبة الأمم الانتداب البريطاني على كل من فلسطين وشرق الأردن، والانتداب الفرنسي على سورية ولبنان، وهذا يعني أن الأهالي في شرق الأردن شهدوا الانتقال من العهد العثماني طويل الأمد، إلى أول حكومة عربية تحمل ?كر النهضة، وكانوا جزءا من هذا المُكون الذي يستند إلى روح النهضة، لكنهم فقدوا وللمرة الأولى فرحة الانتماء لأول دولة عربية في المشرق، وتفرقت العشائر الأردنية في إطار كيانات محلية، بانتظار الإرادة التي تعيد حلم الدولة العربية وسورية الموحدة من جديد.
هذه هي الظروف المحلية والإقليمية والدولية التي نشأت فيها إمارة الشرق العربي، فزمن نشأة الدولة يحمل مبررات بقائها، لأنها قامت على أسس النهضة العربية، وكان مؤسسها الأمير عبدالله بن الحسين قيادة فكرية وعسكرية وسياسية منذ قيام الثورة العربية في الحجاز، فقد شغل منصبا حكوميا في مملكة الحجاز الهاشمية، وكان من قبل عضوا في مجلس «المبعوثان» العثماني في إسطنبول، كما قاد حملة الطائف وهزم الجيش العثماني المرابط في الطائف، وتمتع بمقدرة لغوية مكنته من تشكيل شخصية قيادية خطابية، وتمتع بقدرات القيادة لتأسيس الدولة الجديدة،?وأول عناصر تأسيس الدولة تمثلت بتوفر عنصر قيادي يقوم على خلفيته الهاشمية، ويملك مؤهلات معنوية وفكرية وسياسية وعسكرية، أما العنصر الثاني فتمثل بالروح التي تجمع أبناء الدولة الجديدة وهي روح النهضة، التي شارك فيها أهالي شرق الأردن، والإيمان باستقلال سورية ووحدتها، وهذه الروح هي التي ظلت تشد أبناء الإمارة منذ زمن التأسيس.
ولتثبيت هذا الكيان السياسي، والحفاظ على قيم النهضة بالحرية المسؤولة، والدفاع عن التراب والوطن المقدس، تأسس الجيش العربي الذي شكل الدعامة المبكرة للحفاظ على حدود الإمارة، التي قامت متاخمة لمناطق تشغلها دولتا الانتداب الفرنسي والبريطاني، وهذه الحدود تعتبرها العشائر العربية العابرة للحدود مسارات تقليدية موسمية لها، وعادة ما كانت تعبرها في حالات الغزو المعروفة، وقد أدت التغيرات السياسية بعد الحرب العالمية الأولى وقيام الدول في بلاد الشام، إلى عقد معاهدات تُحدد مساراتها وتمنع حالات الغزو، وكان هذا سببا من أسباب?تشكيل ما عُرف «بمحكمة العشائر» برئاسة الأمير شاكر بن زيد، ومأمور العشائر، والتي وإن هدفت إلى تطبيق القانون العشائري السائد في تلك الفترة، إلا أنها أسست لقضاء عشائري قائم على أساس حفظ الحقوق وصيانة المكتسبات. وبعد أن ترسخ مفهوم القانون الوضعي الصادر عن السلطة التشريعية أصبحت المحاكم النظامية هي الأساس في فرض سيادة القانون. فهذه التعددية المؤسسية في إرساء الأحكام العشائرية تليها القواعد القانونية بحاجة إلى أن يتم استذكارها في مئوية الدولة الأردنية انطلاقا من أن دولة المؤسسات والقضاء هي دولة قوية ومتماسكة. فك?ا كانت الحكومات في القدم تسعى لتوطين العشائر العابرة للحدود ما بين الدول الجديدة في سورية والعراق والمملكة العربية السعودية في محاولة منها لتأكيد سلطتها التي تتحرك القبائل والعشائر في إطارها، فإن الحكومات في عالمنا اليوم يقع عليها مسؤولية بسط نفوذها على جميع مكونات شعبها وعلى أجزاء إقليمها كافة، بما يتوافق مع المفهوم الدستوري الحديث للدولة القانونية.
إن توافر روح النهضة، استمر مع التأسيس بقدوم عناصر عديدة من الكفاءات من أهالي بلاد الشام والحجاز من أحرار العرب الذين ساهموا في الثورة العربية الكبرى عسكريا وإداريا إلى عمان مع بدايات التأسيس، وقد شغلوا مناصب قيادية وأداروا الملف السياسي والعسكري والاقتصادي والتعليمي والتشريعي بقيادة الأمير عبدالله، واستقروا وتجنسوا بالجنسية الأردنية، وكانوا في مواقع المسؤولية إلى جانبه ونستطيع القول بعد هذه القراءة التحليلية للبدايات بأن تجربة التأسيس قبل قرن قامت على أسس فكرية تمثلت بروح النهضة، وعلى وجود كيان يحمل فكرا ق?ميا يقوم على وحدة سورية ورفض تقسيمها، وعلى إقامة جيش عربي شكلته عناصر عسكرية من المؤمنين برسالة النهضة، وحملوا راية النهضة العربية، التي أرسلها الشريف الحسين بن علي للأمير عبدالله، والتي ما زالت راية المملكة الأردنية الهاشمية، وهذه البدايات تؤشر على أن مسيرة المئوية الأولى للدولة كانت متوازنة، ويمكننا القول بأنها تدفعنا للعمل على دخول عتبة المئوية الثانية بأسس راسخة ومتينة، آملين أنها لن تكون مئوية تقليدية أو قلقة.
وبناء على هذه القراءة للأرضية التاريخية نطرح التصور لقراءة محاور الدولة والمجتمع والخطاب المطلوب والمؤسسات، ونحن على عتبة المئوية الثانية، فما هي الدولة التي نريد للمئوية الجديدة؟
الدولة التي نريدها للمئوية الثانية:
كيف ستكون دولة المئوية الثانية استمرارا لدولة المئوية الأولى؟
لا بد وأن نميز بين روح الدولة وهي كما نراها ثابتة، وقد قامت عليها الركيزة الأساسية وهي النهضة والتنوير، وهذه الركيزة لا مجال للتفكير بتغييرها، بل وبعثها بروحها التي تتجدد ولا تموت، وعن دولة الإمارة التي حملت هذه الركيزة التي جعلتها تستمر وتبقى عصية على الاختراق، وفي الوقت الذي تخبو فيه وتضعف روح دول أخرى لم تستند إلى أسس جماعية تدعمها فاهتزت أمام العواصف، ونحن نرى أن روح النهضة تتجدد فينا لأنها تحمل التنوير ولا تمثل القيادة الهاشمية وحدها، بل إنها إرث مشترك توارثه القيادة والشعب معا منذ عهد النهضة ورجالاته?، وهي الروح التي ندخل بها المئوية بثقة، ونحملها نبراسا غاليا شاركت بحمله النخب الفكرية من أهالي بلاد الشام، والقيادات العسكرية العراقية والأردنية والسورية واللبنانية والحجازية واليمنية، ومن هنا يأتي امتياز هذه الشعلة العربية التي ستضيئ الزمن الأردني الجديد.
دولة المئوية الثانية تقوم على خطاب حداثي ومتنور، تكون فيه الحكومات مدنية، يسندها الدستور الذي قام على متانة دستور عام 1952م، وتحميها التشريعات القابلة لروح العصر تلبية لحقوق الفرد والمواطنة وتحقيقا للعدالة والمساواة التي تشكل الركيزة الأساسية، وتتحقق بها حقوق الجميع، مسترشدين بمقولات الملك فيصل الأول الذي كان يؤكد في خطبه لأهالي بلاد الشام «لا يوجد بيننا أقليات وأكثريات نحن شعب واحد»، وبما حققه دستور عام 1952م. وإذا أردنا اختصار رؤيتنا لخطاب الدولة والمواطنة وعلاقة المسؤول بالمواطن، فلا بد من التوقف عند أمرين في المئوية الأولى:
1.    أولهما: رسالة عمان التي تُشدد على روح التسامح والتعددية والاعتدال والوسطية، وهو ما يتناسب مع المجتمع الأردني عبر تاريخه خلال المئوية الأولى من عمر الدولة.
2.    وثانيهما: الأوراق النقاشية السبعة التي قدمها جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، وحدد فيها الرؤية والاستراتيجية، ورسم المنهجية في الفكر المتجدد في المؤسسات، وهي مكملة للدستور ولروح النهضة، وتعتبر خارطة طريق مستقبلي تحتاجه الدولة والمجتمع لرسم الزمن القادم، وهذه الأوراق النقاشية حالة متقدمة في العلاقة بين الملك والمواطن والدولة ومؤسساتها، وهي استمرار للخطاب الهاشمي الذي بدأه الشريف الحسين بن علي (ملك العرب) وأبناؤه الأربعة، وتابعه الملك طلال بن عبدالله وتجسد في الدستور الاردني في عام 1952، وتجلى في خطابا? الملك الحسين بن طلال عبر ما يقرب من نصف قرن من عمر الدولة الأردنية.
وتظل المشكلة التي يجب الوقوف عندها باهتمام، هي خطاب الحكومات في المئوية الأولى، وآلياته وكيفية تفاعل الشعب معه، وهنا يجب أن نتوقف مليا مع مستوى هذا الخطاب ومصادره ومرتكزاته، ودراسة ردود الفعل الشعبية من النخب السياسية والفكرية والاجتماعية على كل المستويات، وتقييم هذه الردود لفهم مكونات الخطاب الرسمي، وتحليله وتقييمه، من أجل تقديم خطاب المئوية الثانية بموضوعية، لرتق الهوة بين الحكومات والشعب بكل مكوناته، وبناء حالة من الثقة التي يستشعر الدارس أنها تكبر ولا يمكن السماح باستمرارها.
ونحن نرى أن هذا هو التحدي الذي يجب حسمه مع مطلع المئوية الثانية، لئلا تستمر آلية الخطاب، ولئلا يتم إقصاء الفئات التي تمتلك الكفاءات المناسبة للزمن القادم، ولئلا تتكرر الوجوه وتدور في دائرة مغلقة. إن الكفاءات الجديدة التي تحمل دم التجديد هي المطلوبة في كل الميادين لتثبيت مفاصل الدولة، والوقوف في وجه التكرار الذي يرفضه الشارع.
ملف الإدارة الموحدة للدولة:
هذا المطلب يطرح معضلة الحاكمية الرشيدة في مؤسسات الدولة كافة الأهلية والرسمية والخاصة، حيث إن التطور يخلق تحديات مستمرة من حيث المواءمة ما بين الحداثة والمعاصرة على أساس الكفاءة، وضرورة تطوير الحقيقة ورسم استراتيجيات مدروسة، وأولويات تعلي الصالح العام للجميع بلا تمييز وتبني القناعات كخطوة أولى لبناء الثقة وتأسيس المواطنة، بالإضافة إلى الاعتماد على العمل المؤسسي بدل الشخصيات. كما أن المؤسسات التعليمية والاقتصادية والتشريعية لا بد لها من خطط مستقبلية لا يهزها تغيير الشخوص الذين لا يوجد ضمان لحياتهم، في حين ت?تمر الخطط حية ومتجددة لو عملت بها المؤسسات، ونحن دولة مؤسسات قامت مع بدايات التأسيس، لكنها أصيبت بنكسة الارتباط بالشخصيات وهو ما يجب معالجته، شريطة التشبيك بين المؤسسات بروح علمية، ودعم هذه المؤسسات بالقدرات الحيوية والفاعلة، واستبدال النمط الإداري التقليدي، وهذا بيت القصيد في سياسة تفعيل الإدارة في المئوية الجديدة.
هذه هي صورة المؤسسات التي نريد، والتي تقوم على التخطيط والبرمجة المدروسة والمتصلة، وعلى التشبيك وتكامل النظم بين المؤسسات، وهذا تحدٍ كبير لأنه يغير في الاعتماد على الأشخاص، وعلى العمل وكأن المؤسسات ليست في دولة واحدة.
ويتصل بموضوع تحديث الإدارة مسألة على جانب كبير من الأهمية، وهي تحديث التشريعات الناظمة لعمل هذه الوحدات الحكومية والتي يعتمد عليها الفرد بشكل يومي في إشباع حاجياته الأساسية، فالإدارة المتجددة تقوم على التشريع الذي يملك القدرة على التحديث والتغيير والتشريعات المتكاملة والنظم المتداخلة الهادفة. أما الحكم على فعالية التشريع وقدرته على تحقيق الغاية منه في تعزيز منظومة عمل الإدارة، فيكون من خلال الوقوف على الأسباب الموجبة لإصداره، والتي تتمثل في المبررات والحجج التشريعية التي دفعت المشرع الوطني إلى إخراج هذه ال?واعد القانونية إلى حيز النفاذ. وضمن هذا الإطار، فإن العناقيد المتشابكة من التشريعات والقواعد القانونية الفاعلة المتجانسة التي تصدر وفق أحكام الدستور هي الأداة القوية بيد الإدارات الحكومية في معرض مباشرتها لمهام عملها كمرافق عامة تقدم خدمات وأنشطة أساسية للفرد الذي يتعامل معها. بالتالي إذا أردنا إدارة ناجحة فعلينا أن نضع بيدها تشريعات متطورة وقوية قادرة على تفعيل دور الإدارة وتصليب موقف المدير الجريء لمكافحة الفساد والتصدي له بقوة وبلا محاباة، وهذه سلسلة واحدة متماسكة (الإدارة الواعية والنظيفة، والتشريعات ا?داعمة، ومكافحة الفساد)، وهي السلسلة التي ستقوي من الأداء الحكومي والمؤسسي منذ بدايات المئوية، لتؤسس لخط ثابت يضع خارطة طريق بيد العاملين بالإدارة المستقبلية، وخاصة في إدارة الموارد، والطاقة، وتشجيع روح البحث، وتقديم العلماء وتفعيل دورهم في دولة تملك عددا كبيرا من الجامعات والمؤسسات التعليمية، وهذا هو روح النهضة واستمراريتها نصا وروحا الذي نقصده في المئوية القادمة، لأنها مئوية الثورة الثقافية والمعارفية والإدارية وتعظيم العلم وسيادة التقنيات بامتياز، وتقوم على العقل والمنهجية والتفكير الاستثنائي وهو روح الع?ر القادم.
ونسأل الآن السؤال الكبير، وهو محصلة للدولة المستقبلية والمؤسسات والإدارة، ما هو المجتمع الأردني الذي سيتشكل في المئوية الثانية؟ هل هو امتداد لمجتمع مطلع هذه الألفية ونحن نعيش في مجتمع عالمي شديد التغير؟ ما هي مواصفات المجتمع الأردني في عصر التقنيات الفائقة والهجرات التي تحرك الشعوب والأفراد، والسياسات الدولية والإقليمية التي تطالنا جميعا، شئنا ذلك أم أبينا؟
مجتمعنا الأردني متجذر في تشكيله وغني، وهذا التجذر لا يجعله من المجتمعات المغلقة، فهو مجتمع متنوع ومتعدد ويحترم هذا التنوع، بل إن من مواصفاته المقدرة على التجدد واستيعاب الظروف المفاجئة، فقد تعرض الوطن للعديد من المتغيرات العسكرية والسياسية على الصعيد الإقليمي، وكان للمجتمع الأردني المقدرة المدهشة على استيعاب المتغيرات واحتوائها، وبدلا من أن تشكل له الهجرات الفجائية مشكلة، كانت مقدرته على الاحتواء تثير الإعجاب وتؤكد على الأصالة، بحيث يتجدد النسيج الاجتماعي بصورة صحية وذكية، هذه الحالات التي شهدناها منذ أكثر?من سبعين عاما كانت حافزا للتجدد، ولا بد من دراسة اجتماعية تقدم القراءة المتوقعة من الفرد الأردني في العقود القادمة، لمعرفة كيفية تحفيز الفرد على التفاعل مع المتغيرات الاقتصادية والفجوات القائمة بين الفئات، بحيث يكون تحقيق العدالة والمساواة والحرية المسؤولة والواعية المزودة بالمعلومات والمعرفة نقطة الانطلاق في مجتمعات المئوية القادمة، دون النظر إلى المنابت والأصول أو الفوارق، وتعظيم روح المواطنة، وتقديم المصلحة العامة فوق المصالح الشخصية. وهنا ندعو إلى إقامة (مرصد ثقافي في المشرق) تقوم عليه مؤسسات قادرة على?الرصد ووضع الخطط والاستراتيجيات لتحقيق الحداثة التي نريد.
وهنا مربط الفرس، فإن التركيز على الفرد وتقديم كل محفزات التعليم والانتقال لتعليم التفكير المنهجي وممارسته لتمكين وتفعيل طاقات الفرد ليصبح فاعلا في الإطار الجمعي، هو معضلة يجب على الجسم التعليمي اجتيازها في المئوية الجديدة التي لا تقبل أن نكرر أنفسنا في عالم فائق التقنيات والحداثة، أقول هذا وأنا على وعي تام بدور التعليم المرئي والمسموع والتقني في حياة البشرية كلها وما أحدثه من ثورات متلاحقة، ولا يجوز لنا أن نستمر في تكرار أنفسنا وتغييب العقل، لأن العالم لا يقبلنا، ولأن لدينا نسبة كبيرة من الشباب في مجتمعنا ?فوق كل المجتمعات الأخرى، وعلينا أن نستثمر بعقولهم وأفكارهم مستفيدين من روح العصر، لنواجه التحديات المجتمعية والاقتصادية بما فيها زيادة الفقر والبطالة والفجوة الجندرية. ويقودنا هذا للحديث عن تفعيل دور المرأة حيث تشير الدراسات إلى أن الفجوة الجندرية في العالم العربي عالية مقارنة مع مناطق أخرى من العالم. وعند الحديث عن آثار جائحة كورونا، على سبيل المثال، كانت المرأة من أكثر الفئات تضررا وأُجبرت العديد من النساء على أن يلزمن بيوتهن بسبب الإغلاق العام. ويدعونا ذلك للتركيز على الإجراءات الوقائية الفاعلة والسياسا? التي تحقق نتائج اجتماعية واقتصادية تعود عليهن بالنفع وتكفل لهن المساواة والحماية.
أما الاقتصاد ومعضلاته في حياتنا، فإن مواردنا قليلة وهذا صحيح، لكن التحدي يكمن في إدارة هذه الموارد، وفي توظيفها، وتطوير قدرات رأسمالنا الإنساني، فمع أن اليابان مثلا دولة قليلة في مساحتها، لكنها دولة مكتفية في زراعتها ومصدرة بامتياز، لحسن إدارتها لمواردها، ولنا في إندونيسيا وماليزيا نماذج تستحق الدراسة، ولو أحسنا إدارة وتوظيف مساحات أراضينا المترامية في البوادي، واستغلال الأراضي الجافة، وتعزيزها بالنباتات الرعوية لتمكنا من تفادي مشاكل الأعلاف ولأصبحنا من كبار مصدري المواشي واستثمرنا طاقات الشباب العاطلين عن?العمل بانتظار الوظيفة. إن إدارة مواردنا هي بيت القصيد والمفتاح في المئوية القادمة، وهذا يُظهر مدى حاجتنا إلى بناء منظومة معلومات وطنية شاملة للخرائط بطبقاتها وفئاتها المدعومة بالمعلومات الإحصائية والبيانية المطلقة توفر مرجعية موثوقة للمُخطِط وصانع القرار الوطني يمكن توظيفها في وضع الخطط الاستراتيجية لإدارة الموارد الوطنية بنجاعة وتساعد في ترتيب الأولويات الوطنية والاستجابة لتطلعات واحتياجات المواطنين بكفاءة وعدالة وتراعي الصالح العام. وعلينا أن نتذكر دائما أن الأردن قلب بلاد الشام، له الحق في أن يتمسك بشعا? الوحدة والحرية والحياة الفضلى.
ونحن في هذا الوطن العزيز، عزنا الحقيقي هو في جيشنا العربي، الذي نشأ عربيا وتميز بتاريخه المشرف طوال المئوية الماضية. إن هذا الجيش العربي الذي حمل راية العروبة والنهضة لهو السياج القوي لنا كلنا، وهو الجيش الذي سالت دماء أبنائه الأبرار على ثرى فلسطين الحبيبة حماية للمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف، وهي أمانة يحملها الهاشميون.
لقد ترك الهاشميون ومعهم كل الأردنيين بصماتٍ خالدة على حجارة القدس وفي رحابها الطاهرة، ففي 29 أيار 1915م، زار جدي الشريف الحسين بن علي القدس، وصلى بالمسجد الأقصى المبارك، فكانت زيارته هذه إيذانا لحجر الأساس في الوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس.
وفي خضم تأسيس الإمارة في عام 1921م، جاءت أول زيارة لجدي الملك المؤسس عبدالله بن الحسين، رحمه الله، إلى المسجد الأقصى المبارك. وفي 4 حزيران 1931م جابت جنازة الشريف الحسين بن علي، رحمه الله، شوارعَ القدس العتيقة، ثم ساحات المسجد الأقصى المبارك، قبل أن يُوارى الثرى في المدرسة الأرغونية الكائنة في الرواق الغربي للمسجد الأقصى المبارك. وقد كانت جنازته مهيبة.
ولا تغيب صورة جدي الملك المؤسس عن الذاكرة حين سابق جنود الجيش العربي في إخماد الحريق الذي اندلع في قبة كنيسة القيامة إثر إصابتها بقذيفة في عام 1947م.
إن التاريخ يستذكر أن الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، كسا قبة الصخرة المشرفة بلونها الذهبي، ثم كُسيت بالرصاص ألف عام، حتى أعاد لها المغفور له الملك الحسين بن طلال، رحمه الله، بهاءها ورونقها في عامي 1964م و1993م، حين طُليت بالصفائح المذهبة كسابق عهدها.
ونستذكر من التاريخ أيضا، كيف أمر الملك الشهيد نورالدين زنكي بإنشاء منبر للمسجد الأقصى المبارك، وكيف أحضر السلطانُ صلاح الدين الأيوبي المنبر إلى القدس، ثم كيف سعى المغفور له الملك الحسين بن طلال لإعادة بناء المنبر، وكيف أنجز جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين بناء منبر المسجد الأقصى المبارك بالشكل والتصميم الذي كان عليه منبر صلاح الدين، والذي وصفه ابن الأثير في (الكامل في التاريخ) قائلاً: (لم يُعمل مثله في الإسلام).
لقد أكد الأردن، وما زال، التزامه الدائم بالقضية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال وحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة في إقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني وعاصمتها القدس الشرقية، على خطوط الرابع من حزيران 1967م.
نطلب الرحمة الواسعة لأرواح أهلنا، الذين أسسوا هذا الوطن الغالي بطاقاتهم وأرواحهم وبذلوا في سبيل عزته كل ما يملكون، ونستذكر جهود الملك المؤسس، وجهود المغفور له والدي واضع الدستور وُمشرع التعليم الإلزامي لأبنائنا، ونترحم على روح الملك الباني الحسين بن طلال، أخي الذي أفنى عمره كله في بناء هذا الوطن. كما نشد على يديّ ابن أخي الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، الذي يمضي بالأردن بعزم وثبات ورؤية مستشرفة، جوهرها كرامة الإنسان الأردني وهدفها خدمة الأمة.
ونحيي بسلام أرواح كل جنودنا، والراحلين من أبناء هذا الوطن العزيز طوال هذه المئوية التي مرت على بناء الدولة الوطنية، وعلى من فقدناهم في هذه الجائحة غير المسبوقة منذ عام 1917م، ومنهم العاملون في قطاع الصحة المدني والعسكري، وأؤكد ضرورة إعطاء الأهمية والأحقية لمكونات الكرامة الإنسانية.
وأقول أخيرا، ونحن نقف على عتبة هذه المئوية، جعلها الله زمنا آمنا لنا ولوطننا العزيز، فلندخلها بسلام آمنين.
وأختم كلامي بقوله عز وجل «يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ» صدق الله العظيم (سورة الانشقاق: 6).

[ تم التعديل: الثلاثاء، 19 مارس 2024، 10:17 AM ]
 
بواسطة الأحد، 17 مارس 2024، 2:34 PM - منصة الحسن
أي شخص بالعالم

السبت 11-01-2020

يتفق المؤرخون على أن كل ظاهرة اجتماعية فريدة لا تتكرر بنفس السياقات والسمات، إذ إن هذه الظواهر تكون دائماً مخصوصة بزمانها ومكانها. فإذا أخذنا مُنْجَزَاً من مُنجزات النهضة العربية في مسيرتها التحررية، بدايات القرن العشرين، ورغم أنها ارتبطت بمزايا اجتماعية وسياسية كثيرة، إلا أننا سنجد أن الدستور الفيصلي، الذي تمر علينا ذكراه المئوية الأولى، مَثَّلَ علامة اجتماعية فارقة بين هذه المزايا. فقد أحدث ما يُشبه الثورة الحقوقية الاجتماعية، إلى جانب النُقْلة السياسية النوعية، التي حددت طبيعة علاقات الجغرافيا والديمغرافيا في سوريا الحديثة والعراق، لكونه شكل لبنة تاريخية نادرة، وغير مسبوقة، للتعايش بين القوميات والأديان والمذاهب، ووضع لبنات تأسيسية لكيان جغرافي اجتماعي متماسك، في تلك الفاصلة الزمنية من وجوده الوطني في المشرق العربي. لقد مثلت الإصلاحات الدستورية العثمانية، التي بدأت متواضعة في العام 1839 وتطورت في الشكل والمضمون بعد العام 1908  فشكلت مقدمات حافزة، في الواقع، للحركة الدستورية العربية. فبعد تداعي أركان الدولة العثمانية، أعلن فيصل بن الحسين، في تشرين الأول/أكتوبر 1918 تشكيل حكومة دستورية في سوريا، باسم والده الشريف حسين، تشمل جميع بلاد الشام أو المشرق العربي (جوهر المشرق العربي اليوم هو لبنان، فلسطين، الأردن سوريا والعراق)، وأراد لها منذ البداية حكماً دستورياً، يُشارك في صياغته شعوب بلاد الشام بأطيافه المتنوعة؛ المذهبي والديني والعرقي والطائفي بلا تمييز، ويُنتخب نوابه وشيوخه بإرادة وطنية حُرَّة، لتكون بذلك أول انتخابات نيابية شعبية في تاريخ سورية الحديثة، التي تَبنت فكرتها النُّخب العربية في العشرينيات من القرن الماضي. وقد نقلت تلك النخب؛ استلهاماً لروح هذا الدستور، مفاهيم نهضوية بنظرة استشرافية للقرن الماضي إلى الثقافة السياسية العربية، كالدولة ـــــ الأمة، والمواطنة، والتمثيل النيابي، والاقتراع، وتوازن السلطات، وغير ذلك من آليات الممارسة الديمقراطية المدنية. بعد وصوله إلى دمشق، قام جلالة الملك فيصل، رحمه الله، بسن تشريعات تحقق مقتضيات العدل والمساواة بين الناس، في مجتمع سوري متنوّع متعدّد، وعلى رأس هذه التشريعات وثيقة دستورية مدنية عصرية، فابتدر التوجه لإنفاذه بإصدار مرسوم لتأليف وزارة برئاسة رضا باشا الركابي، الذي استمر برئاسة الوزارة السورية من 30/9/1918 ولغاية 26/1/1920 لينتظم في عهد هذه الحكومة تشكيل مؤتمر سوري، ووضع قانون أساس للبلاد باسم “دستور المملكة السورية”، وذلك في إطار معالجته للقضايا الاجتماعية للكيان السوري وفق منهجية حضارية أعطت لهذا الدستور طابعاً مدنياً لاعتماده المواطنة كأساس للحقوق والواجبات، واتسم بالبعد الديمقراطي، الذي أخذت الحريات فيه حيزاً كبيراً، عَزَّ مثيلها في ذلك الزمان. -    خطاب موضوعي  وتجدر الملاحظة أنه قد سبقت صياغة هذا الدستور خطاب موضوعي اجتماعي وسياسي واسع يعالج الحيرة التي نحن فيها اليوم، توّجت بالمؤتمر العام، الذي عقد ثلاث جلسات رئيسة، بين شهري حزيران/ يونيو 1919  وتموز/ يوليو 1920 استطاعت من خلالها لجنة الدستور وضع مشروع مؤلف من 148 مادة لـ”المملكة العربية السورية”. ركزت المادة الأولى فيه على اختيار اللجنة للشكل النيابي الدستوري في حكومة ملكيةٍ نيابية. بينما أقرت المادة التاسعة والعشرون بأن الحكومة مسؤولة أمام المجلس النيابي. وكانت الملكية في مشروع الدستور مُقيدة، والسلطة التشريعية موزعة على مجلسين؛ “النواب، والشيوخ”، اللذان اقتبسا من نموذج الملكيات الدستورية الأوروبية. غير أن اللافت في الدستور هو مفهوم وصفه “المواطن”، في المادة العاشرة، التي أطلقت على جميع أفراد المملكة السورية العربية بغض النظر عن أي تحديد ديني، أو اثني له، فالمواطن السوري هو كل فرد من أهل المملكة السورية العربية، وليس من يتكلم العربية فقط. لهذا، كان الدستور العربي الفيصلي دستوراً مدنياً في المشرق العربي، ولكونه دستورًا متميزًا بتقدير بريطانيا وفرنسا فقد عُمل على إفشاله خشية كل من البلدين أن يؤدي هذا النموذج إلى زعزعة أركان حكمهما في العراق وفلسطين وشمال أفريقيا. وبالمثل، أجهضت بريطانيا المطالب الدستورية في مصر، التي قُدِّمَت في ثورة 1919  والتي نسقت عملية مُحكَمَة من أعلى إلى أسفل لصياغة دستور ليبرالي، بينما كان زعيم الثورة سعد زغلول في المنفى، مثلما واجهت بالقمع ثورة العشرين العراقية ذات المطالب الوطنية التي تتعلق بالاستقلال وحق تقرير المصير. وقد تميز الدستور باحترام الآخر وتجلت فيه الهوية العربية المستوعبة إنسانيا للتنوع والتعدد الثري على أساس الاحترام المتبادل، فلم يشترط اللسان العربي لغة للجميع. وتضمنت مواده التغيرات السياسية والاجتماعية التي طرأت على البلاد، حيث المشرق حاضنة الحضارات “والشمس تشرق من الشرق”، وقد شكلت قضاياه منطلقاً للحوار والنقاش الشعبي والنخبوي، الذي استمر بعد الاستقلال الوطني، وتفاعلت معه أجيال لاحقة، وتستذكره بالفخر إلى اليوم. إذ إنه وفر مادة ثرية للتفكر والتدبر، وقدم وثيقةً مبكرة عن بنية القضايا الوطنية، التي ينبغي أن تستأثر بالاهتمام. ومما يُستفاد من تجربة الدستور الفيصلي أنه أسس لفكرة نماذج من العيش المشترك بين التيارات الوطنية والدينية المحافظة على حد سواء، التي نشأت عبر تعاون الحركات الدستورية الشعبية الأولى في العالم العربي بعد الحرب العالمية الأولى، والتي اجتهدت في التخلص من الحكم الأجنبي، وإقامة الديمقراطية الدستورية. غير أن قوى الاحتلال عملت على اجهاض هذه النماذج. ويشير النسق التاريخي، الذي تم الكشف عنه خلال تجربة الدستور الفيصلي، إلى أن التسوية الهادفة بين التيارات الوطنية والدينية المحافظة، تتطلب ظروفاً خاصة وقيادة استثنائية تستوعب الوقائع الثقافية والمتغيرات الاجتماعية، وتدرك الحكمة في إدارة التنوع والتعدد. وتؤكد هذه التجربة أن الديمقراطية ليست مناقضة للإسلام ولكنها تشكل النموذج المنشود باستلهام روحه الحيّة وتعاليمه السمحاء. وهذا النموذج متقدم على الكثير من النماذج الحديثة. وعندما نقارب المسألة بين عامي 1920  و2020 تتكشف الميزة المتقدمة للدستور الفيصلي الذي جاء من تجارب حكم الدولة العثمانية بعد ستة قرون في تقييم واضح وناضج لما يجب أن يخلفها بالاعتراف الدستوري والقانوني لحقوق الشعب العربي الذي لم يُعتبر جزءًا من الدولة، لهذا فله الحق بأن يبحث عن هويّة وجدها بالدستورية مثلما وجد سعد زغلول هوية وادي النيل في دستوره، حيث أن ملك مصر كان ملك مصر والسودان آنذاك. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: لقد تمكن السوريون والمصريون من التوصل إلى حل وسط بين المحافظين والليبراليين قبل قرن من الزمان، فهل يستطيع النخبويون العرب من اليمين واليسار تكرار تلك التجارب اليوم؟ إن مثل هذا السؤال تستوجب الإجابة عليه استصحاب السمات الأساسية للإسلام، وأصول الثقافة العربية، والتجربة الإنسانية المُنْتِجَة لليبرالية والفكر الديمقراطي الحديث، الذي يُعلِي قيمة التنافس الإيجابي على الاستقطاب السياسي. فقد أدى هذا الاستقطاب، الذي هيمن على الواقع العربي طويلاً، إلى ظهور تيارات عزز من مكانتها الاستعمار، وكانت مناهضة لصياغة دساتير شبيهة بالدستور الفيصلي، الأمر الذي عرقل الانتقال إلى سياسات أكثر ديمقراطية وشمولية وتعددية في عالمنا العربي اليوم، حيث أن بريطانيا وفرنسا كانتا ترغبان أن ترثها الأنظمة العسكرية، كما قيل، بدلا من أن تستمر هذه الرعاية الملكية لأسباب لم تصدق القول، أو من حيث المطلق معارضة للملكية، وهي بذلك تناقض نفسها عندما تقول بأن الديمقراطية حل للشعوب. لقد وعد الملك فيصل السوريين بأن الطبيعة العربية للنظام هي عبارة عن مصطلح من الإقليم إلى العالم، يهدف إلى دعم مطالب الاستقلال السوري، وليس أداة لاستبعاد المتحدثين بغيرها من الكرد والأرمن وغيرهم. ففي خطاب ألقاه في حلب في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1918 عرّف فيصل، وسبقه إلى ذلك الشريف الحسين بن علي والملك عبد الله الأول، العروبة كبرنامج سياسي للمساواة والإدماج. “ أنا عربي، وليس لدي أي امتياز على أي عربي آخر”، كما تعهد. وقال “إنني أحث إخواني العرب، أيا كان دينهم، على استيعاب زمام الوحدة والتفاهم المتبادل، لنشر المعرفة وتشكيل حكومة تجعلنا فخورين” بها. “أكرر ما قلته في كل مكان، أن العرب كانوا عرباً قبل موسى ويسوع ومحمد، وأن الأديان تقودنا إلى متابعة الحقيقة والأخوة على الأرض. لذلك، كل من يزرع الانقسام بين المسلمين والمسيحيين واليهود ليس عربياً. -    زعيم روحي وزاد الملك فيصل على ذلك بأن طمأن غير المسلمين أن مكانته كإبن الشريف حسين، ونسبته لذرية النبي الهاشمي، لن تجعل منه خليفة لبلاد الشام؛ على عكس ما ألفه الناس أيام الإمبراطورية العثمانية، حيث كان السلطان أيضاً الخليفة، والزعيم الروحي لجميع المسلمين. وكان هذا التوجه الجامع قد حدا ببطريرك الروم الأرثوذكس، وكبير حاخامات دمشق، أن يؤيدا برنامج جلالته، بناء على تأكيدات ملكية بأن مجتمعاتهم ستكون محمية. وبهذا قدم نموذجاً عروبياً منفتحاً للإسلام فهم منه الحلفاء في باريس أن هناك “أمة” سورية تستحق الحكم الذاتي كشعب متجانس يحتل منطقة جغرافية متجاورة. وقد عمل فيصل على تمكين وتفويض السلطة التشريعية، وأن تكون الحكومة مسؤولة أمام المؤتمر، وليس أمام الملك. وأن يشرف المؤتمر، وليس الملك، على نظام المحاكم، بما في ذلك المحاكم الدينية. ويمكن اقتراح مشاريع القوانين من قبل منظومة المنتخبين والحكومة، وليس فقط من قبل رئيس الوزراء، كما في العهد العثماني. فقد اضطر رئيس الوزراء مرة، بعد الكثير من النقاش والمداولات، إلى تقديم برنامجه للموافقة عليه من قبل المؤتمر، إيماناً بأن السلطة الحقيقية في الديمقراطية تستمد من الشعب، وأن المؤتمر يمثل الشعب. ومع ذلك، فقد توصلوا إلى حل وسط بشأن العديد من القضايا الخلافية، بما في ذلك دور الدين في الدولة، وحقوق الأقليات، وميزان القوة بين الملك والبرلمان، وبين الحكومة المركزية والمحافظات. كما قلص الدستور قوة النخب بإلغاء الترشيح لعضوية مجلس الشيوخ مدى الحياة، إذ أوجب انتخاب أعضاء مجلس الشيوخ، ولمدة تسعة أعوام فقط. وفقد مجلس الشيوخ أيضاً الحق في فحص التشريعات، التي يقرها مجلس النواب، بسبب الانتهاكات المحتملة لحقوق الملك، أو الدستور. إن الأمل يحدونا بالعودة الى النهضة المؤسسية التي أرسى دعائمها جيل الحسين بن علي وعبد الله وفيصل الذين بدأت بهم الدربة على الحياة السياسية في “مجلس المبعوثان”، وهو المجلس النابع من الواقع الجيوسياسي في المشرق العربي وآسيا الصغرى تاليا إلى العالم، وليس من مساومات فرساي، إنه صوت الإقليم إلى العالم وليس العكس. وأضيف أن الدستور الفيصلي لعام 1920 كُتب بمبادرة لا سابق لها في العالم العربي، وبرضا ومباركة من الشريف الحسين بن علي، وصيغت مواده بروح أكثر ديمقراطية وعدلاً وإيماناً بالمساواة، إلا أنه لا شك مدين ببعض الفضل لسلفه العثماني، الذي أقر بعض المبادئ العامة لحقوق المواطنة في وقت كانت فيه الإمبراطورية العثمانية تلفظ أنفاسها الأخيرة. وبينما استبعد الدارسون المماثلة المطلقة بينهما، إلا أنهم بينوا بجلاء لا يقبل الجدل أحقية الدستور الفيصلي في أن يتوج كأول وثيقة حقوق عربية وإسلامية، وذلك لما وفره من ضمانات ما تزال تمثل مطلباً ملحاً في أكثر من بلد عربي وإسلامي. -    تركيز الدستور ففي الوقت الذي ينصرف فيه تركيز الدستور، في المقام الأول، بالسيادة القانونية على الدولة والمجتمع، إلا أن الدستور الفيصلي كان ينظر إليه أيضاً على أنه وسيلة فعالة للترويج لوطن أكثر شمولاً وأقل انقساماً؛ فقد هدف، على وجه التحديد، إلى إعادة صياغة الحياة الاجتماعية والسياسية في سوريا كمجتمع واحد موحد، واعتبار غير المسلمين مواطنين كاملي الأهلية، ويتمتعون بحقوق متساوية وواجبات مشتركة. فكانت التسويات والنماذج، التي توصل إليها هذا الدستور فريدة، ومثلت مبادرة تاريخية تأكد بها مبدأ السيادة، وحقوق المواطنة، والاحترام المتبادل، والكرامة الإنسانية. وختاما أقول أن ما نحتاج إليه في عالمنا العربي اليوم هو ويستفاليا عربية تقيم علاقات متوازنة بين الدول والشعوب وتحترم خصوصية الهويات الفرعية وترعى المصالح المشـــــتركة والمنافع المتبادلة بين شعوبها وبلدانها. وتبرز أهمية اتفاقية ويستفاليا (الأوروبية) أنها عززت مفهوم التسامح عبر السماح للأقليات الدينية في الإقليم بممارسة شعائرها الدينية بحرية. كما أسست لأسبقيات سياسية مهمة فيما يتعلق بسيادة الدولة، والعلاقات الدبلوماسية بين الدول، وتوازن القوى في أوروبا.

[ تم التعديل: الثلاثاء، 19 مارس 2024، 10:42 AM ]
 
بواسطة الأحد، 17 مارس 2024، 2:31 PM - منصة الحسن
أي شخص بالعالم

الأحد 2020-06-21

اعتدنا كأردنيين أن نردد مقولة تؤكد أن الأردن متحف من شماله إلى جنوبه، وأنه لو سورنا الأردن لكنا نعيش في متحف لا مثيل له، وهذه مقولة صحيحة، فمع أننا نتحدث عن مساحة صغيرة، لكنها ثمينة بما تحويه من آثار للعصور المتعاقبة ما قبل التاريخ، وللعصور التاريخية كلها، وربما كان للموقع المتميز دوره في نشوء كل هذه الحضارات على أرض الأردن، الذي يربط آسيا العربية بإفريقيا العربية، وشبه جزيرة العرب ببلاد الشام والهلال الخصيب. على أرض الأردن نشأت أقدم قرية في العالم في موقع عين غزال، واقدم المدن في جاوة، وتتابعت الحضارات المحلية من الجنوب إلى الوسط والشمال ما بين الأدوميين والمؤابيين والعمونيين والسريان، وكانت الحضارات العالمية تتطلع للسيطرة على الطرق التجارية التي تربط البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، بالطرق البرية التي تحمل تجارة عرب الجنوب، وفيما بعد عرب الشمال، وعلى أرضنا تميزت حضارة الأنباط الذين وصلوا العالم القديم بتجارتهم، ونجحوا في استثمار المياه للزراعة، وسيطروا على طرق القوافل، وعرفوا كيف يجعلون من ثروات البحر الميت سلعة للتحنيط لدى فراعنة مصر، وكانت عاصمتهم الثانية في "أم الجمال” مركزا للتجارة توازي البترا، فاجتذبت هذه الميزات قوى الغرب الحضارية من يونانية ورومانية، وأشورية وفرعونية، وأحفاد السلوقيين والبطالمة، والفرس، والبيزنطيين، كل هذه الحضارات مرّت على شرقي نهر الأردن، وتركت فيه روائع الآثار التي ما زالت بيننا تشهد على العصور السابقة على ظهور الإسلام، ومن هذه الأرض بدأت الفتوحات الإسلامية، وعلى أرضها تركت الدولة الأموية قصور الخلفاء، وفي كل زاوية منها تركت الدول الإسلامية المتعاقبة مبانيها ومؤسساتها، من مساجد وكنائس وأسواق وبقايا مباني وطرق، في العصور العباسية والفاطمية والأيوبية والمملوكية وأخيرا العثمانية، وكل هذه الآثار تشهد على القيمة العظيمة للموقع، وعلى دور الأهالي عبر العصور بالمشاركة في بناء هذه الحضارات، بحيث تحققت مقولة الأردن متحف. وبمناسبة اقتراب احتفائنا بمئوية الدولة الأردنية التي قامت على هذه الأرض العام 1921م، وجمعت عبقرية أهالي بلاد الشام والحجاز والعراق في إدارتها، وشكّلت حالة استثنائية بقيادة الملك المؤسس عبد الله بن الحسين، فإن مراجعة الكيفية التي أدارت بها الدولة ملفّ الآثار على أرضها، يجعل من دراسة الحالة المؤسسية لدائرة الآثار مسألة مطلوبة، وهي مراجعة لكيفية فهم القيادات الأردنية المبكرة للقيمة الحضارية التي تمثلها آثار الأردن، ومن مراجعتنا لأخبار الأردن من خلال الصحافة مع أول سنوات التأسيس، نقرأ في جريدة البشير الصادرة في نيسان العام 1922 م، عن تأسيس " مجلس المعارف العالي”( .. للسعي في ترقية الدروس والعلوم، ويعتني بتاريخ وجغرافية بلاد شرقي الأردن الغنية جدا بالآثار القديمة النفيسة، ..وتمّ تعيين أول عضو فيه الأرشمندريت ميشيل عساف رئيس طائفة الكاثوليك بالسلط لما سبق لحضرته من الكتابات عن تاريخ وآثار هذه البلاد الشرقية، ويتم إنشاء متحف في عمان، يجمع فيه ما تصل إليه اليد من الكتابات القديمة والنواويس الرومانية والنقوش الجميلة النبطية وغيرها، فتكون من أجمل المتاحف السورية ، لما يتوفر في هذه البلاد من الأنقاض النفيسة النادرة الوجود..). وكان الأمير عبد الله بن الحسين قد اوعز بنشر كتاب الأب عساف في التأريخ لعمان، وأبدى تقديره لهذا الجهد، وقام رئيس مجلس النظار ( الوزراء) رضا الركابي بمتابعة هذا التوجه، وأمر برفع التراب وسائر أنواع الأنقاض عن المسرح الروماني بعمان حسبما ذكر مراسل جريدة البشير التي تصدر في بيروت، وذلك في شهر آب من العام 1922م . ويبدو أن الاهتمام بالآثار اتخذ حالة مؤسسية منذ بدايات نشوء الدولة الأردنية، فقد نشرت الجريدة الرسمية " الشرق العربي: اعتبارا من العام 1926 م انضمام الفيلسوف التركي رضا توفيق إلى المجلس التنفيذي ( الوزراء ) باعتباره ( محافظ الآثار)، وكان رضا توفيق من المقربين من الأمير عبد الله بن الحسين، وتذكر الجريدة الرسمية ان رضا توفيق تبرّع بمكتبته التي تضمّ أربعة آلاف مجلد لإقامة نواة للمكتبة العامة في المسجد الحسيني، وذلك العام 1924 م، عندما زار الشريف الحسين بن علي (ملك العرب) عمان، وبايعه أهالي الإمارة وفلسطين ومدن بلاد الشام بالخلافة. هذه هي بداياتنا في الدولة الأردنية في الحفاظ على كنوز الحضارات التي تحفظها الآثار على أرضنا، وهي تؤشر على أن الدولة عملت على المحافظة على الآثار بوعي، بحيث جعلت ملف الآثار يُدار بشكل مؤسسي بنشوء دائرة للآثار، وبعد مرور قرن من الزمان نجد أن استثمار هذه الكنوز في حقل السياحة حالة مطلوبة ، وتشكل مصدرا من مصادر دخل الوطن، وعلينا الحفاظ على هيبة الدائرة واستمرارية عملها الفني والأكاديمي والمؤسسي، طالما أن الأجداد حملوا هذا الوعي، وكانت بدايات الدولة تؤكد على العمل المؤسسي في إدارة الآثار التي تحفظ تاريخنا على هذه الأرض المباركة، ونحن اليوم ولله الحمد نملك القدرات والطاقات الأكاديمية والفنية، ولدينا العديد من الباحثين المتخصصين الذين أداروا منذ الثمانينيات من القرن الماضي( المؤتمر الأردني العالمي للتاريخ والآثار)، وأغنوه بأبحاثهم ودراساتهم لكنوزنا الثمينة على أرضنا من الآثار الحضارية، وختاما ونحن نقترب من المئوية الأولى للدولة الأردنية، نرجو ان نعطي لهذه الكنوز دورها في عنايتنا، وأن نركز على المؤسسية التي تمثلها دائرة الآثار، وأن نثق بإمكاناتها الأكاديمية والفنية والإدارية، فنحن نملك وطنا يستحق أن نحافظ على تاريخه بالمحبة الكبيرة.

[ تم التعديل: الثلاثاء، 19 مارس 2024، 10:18 AM ]
 
أي شخص بالعالم

الجمعة، 15 نوفمبر، 2019

ربّما لا نجاوز الصواب حين نرجع إلى الأصل ونسأل أنفسنا عن المعاني الكبرى التي أنشأها الإسلام، وكيف كانت المعالجة الإلهية جذرية وأصولية، فعالج الإسلام القضايا الحياتية مثلما عالج القضايا الروحية. فهل كانت الزكاة إلا معالجة ربّانية لقضايا الفقر، وأمرا إلهيا بالتكافل الاجتماعيّ، وتأمينا للبشر في أهم حاجاتهم الأمنية التي يوجزها قوله تعالى “الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ” -صدق الله العظيم- (سورة قريش)، فهما الحاجتان اللتان ما زالتا تتربّعان على أعلى سلّم الأولويات في حاجات بني البشر. لكن الإسلام السليم الحنيف يجمع في مقاصده الدين والدنيا، ويعالج عبر الزمن الضرورة المؤسسية لخدمة معاني الكرامة الإنسانية ومضامينها. وحين نستعرض أركان الإسلام، فقد جعل الشارع الحكيم الزكاة أحد الأركان، أي إن الإسلام لا يقوم من دونها، ذلك أن اقتصاد الدولة والأفراد لا يستقيم في التصور الإسلاميّ من دون إيتاء الزكاة، حتى يتحقق عنصر الاستدامة في الإحسان، وحتى يكون التكافل طريقة حياة للمجتمع. لا فكرة فردية تنبني -وتقتصر- على كرم الأفراد ومبادراتهم، ولتكتمل الدورة الاقتصادية وتستمر بمحتواها الإنساني من دون تناسي فئة من فئات المستفيدين من الزكاة أو الجَور عليهم، فكانت الزكاة حصّةً تُؤخذ كلَّ حوْلٍ (سَنَة) من المال المُدّخر، ومن المال المُكتَسَب الذي يملكه المسلم والقابل للزيادة إذا استحقت عليه الزكاة -باستيفاء شروطها-، ويتوخّى من إخراج الزكاة أن يتطهَّر هذا المال بالعطاء الأخلاقي، وأن يتطهر المجتمع من آفات اجتماعية تنشأ عن الحرمان المتعدد، يدلك على هذا أن الله تعالى حين ذمّ المشركين قال  “وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)” –صدق الله العظيم– (سورة فصلت). فالامتناع عن الزكاة سبب للويل، وربما يأتي هذا الويل في الدنيا على هذه الأمة، في شكل حقد طبقي يولّد صراعا اجتماعيا، أو تحديات إنسانية واجتماعية تنشأ في بيئة محرومة، ولذا كان إخراج الزكاة ركنا من أركان التدين والإيمان الحقيقي. إنَّ الزكاة حرب على الفقر، و”سبيل لكفاية الفقراءِ سؤال الأغنياء”، وليست كفاف يومٍ، أو مؤونة مؤقتة، وهي حقّ للفقراء في أموال القادرين. وظلّت مصادر التشريع توضح مصادر الزكاة مستندة إلى قول الحق عزَّ وجلّ “إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” –صدق الله العظيم– (سورة التوبة). ولمّا كانت المجتمعات تتباين في قدرتها المالية تماما كالأفراد، فإن مناداتنا بمؤسسة عالمية للزكاة والتكافل الإنساني تجيء للمناقلة في الفائدة بين المجتمعات الغنيّة والفقيرة، وفي ذلك توجيه أرشدُ لمنفعة الصالح العام، وتحقيق أبلغ لمشروعية الزكاة، فتُصرَف للأحْوجِ إليها، حتى لو تجاوزت الحدود أو الدول. وبناء على ما سبق، لا بدّ لنا من التفكير في مشروعات تكمّل المعرّفة بأهداف الأمم المتحدة للاستدامة، وتتوافق مع أهداف ومقاصد الزكاة نفسها، بغية بلوغ العام 2030 (1451هـ)، وحتى تكون المشروعات التي تتطلع إليها صناديق الزكاة على نوعين: أحدهما يملكه صندوق الزكاة الإنساني العالمي المرجو إنشاؤه، ويكون وسيلة لنماء الأموال التي دفعها دافعو الزكاة من جانب، وأما النوع الثاني فلنماء حصة الأفراد من خلال مشروعات تخصّهم، لتؤمّن لهم ما يكفيهم سؤال الزكاة، ليقرروا مصيرهم الإنساني، بل ليتحوّلوا إلى دافعين للزكاة، في وقت أصبح فيه مفهوم الفقر إلى الله تعالى فقرا إيمانيا وروحيا لا فقرا ماديا نفعيا، وحتى تكون منفعة النوعين عائدة بالضرورة على مصارف الزكاة المعروفة. ولا بدّ من الانتباه إلى تقليص الازدواج بين الزكاة والضرائب، فتصبح الأموال التي تُخرَج زكاةً تُعفي دافعها بمقدارها من الضرائب، وإنَّ الطريقة التي يمكن لدافع الزكاة أن يثبتها هي أن يدفعها إلى مؤسسة عالمية أو إقليميّة أو وطنية، لها هياكلها، وآلياتها في الإنفاق، وشفافيتها، ووضوح دخلها ومدفوعاتها. إنَّ الكفاية المنشودة، وتنظيم الإنفاق في أموال الزكاة، على المستوى العالميّ، هي ما نتطلّع إليه من هذه المؤسسة العالمية، وكذلك العمل على إبطال الازدواج بين الزكاة والضرائب من جهة، وإبطال الازدواج والتكرار وعدم التوجيه في إنفاق أموال الزكاة، من جهة أخرى، إذ يمكن أن يحصل مستحقّ الزكاة على أضعاف حصّته أو حصّة أمثاله، بسبب قدرته على الوصول إلى الجهات الدافعة، أو قدرتها على الوصول إليه. ولا بد من إيجاد معايير لجودة أداء صناديق الزكاة ومؤسساتها، لتضاهي بعض المؤسسات الدولية الناجحة والمتميّزة، التي تستخدم صفة (إسلامية) لأعمالها المصرفية، وللصكوك وللإجارة مثلا، وتحاكي فاعليتها في المجتمعات. فمن باب الأولوية الإنسانية الكبرى أن يعلي العالم من حق احترام الآخر في التزام قواعد الزكاة والتكافل الإنساني، بدلا من مسرحية العبث والبغض والتهميش لثلثي سكان العالم. كما لا بدّ من الالتفات إلى جوانب تنمويّة تقوم بها أموال الزكاة، فتحقق مشروعية الزكاة، كما أراد لها الدين الحنيف، وتتحقق أوجه الأمن الإنسانيّ للأفراد والجماعات البشرية في المجتمعات، وتستكمل حاجات قطاعات التنمية في المجتمعات. كما لا بد من استثمار معطيات التكنولوجيا الحديثة وإمكاناتها لتنظيم الإنفاق، ولتعظيم الاستفادة منه، ولتوجيهه إلى أوسع شريحة من المستفيدين، وقد اقترب عدد الفقراء فقرا مدقعا في العالم من المليار شخص، ينحصر نصفهم تقريبا في خمس دول، ويعيش ما يزيد على 85 بالمئة من فقراء العالم في جنوب آسيا، وجنوب الصحراء في أفريقيا، ولكنّ آمال العالم في تجاوز هذه المعدلات المرعبة من الفقر تبدّدت على صخرة النزاعات المسلّحة التي اجتاحت مناطق إضافية من العالم. ولا بدّ من أن نتذكّر أن الأخبار التي وردتنا عن القضاء على الفقر أيام الخليفة عمر بن عبدالعزيز كانت نتيجة طبيعية لجودة التحصيل، والعطاء، والإنفاق. وهو بالدرس العلميّ قابل للتحقُّق من جديد في مجتمعاتنا في كل العصور. وربّما كان ضيق الحال، وسوء الظروف الاقتصادية والأمنية في كثير من المناطق والبلدان في هذا العالم داعيا لنا لاستنهاض الهِمم النبيلة، وتكثيف الجهود، وتنظيمها للخروج على العالم بتجربة ناجعة في التكاتف بين الإخوة في الدين وفي الإنسانية. ولا بدّ من أن نظلّ محكومين بالأمل، لأننا سنفقد بفقدانه فرصا للفقراء ليعيشوا بكرامة، وفرصاً لنا لنشعر بأننا نقدّس الإنسانية كما أراد لنا الله. ونحن ندرك تعاظم ظاهرة الفقر، التي فردت مؤخراً أجنحتها السوداء على شرائح جديدة ممن كانوا بمنأى عنها. والله من وراء القصد.

[ تم التعديل: الثلاثاء، 19 مارس 2024، 10:39 AM ]
 

  
loader image